حسن ولد المختار

منذ الإعلان عن اقتراح أوباما، للسيناتور الجمهوري تشاك هاجل في منصب وزير الدفاع، ضمن إدارته الجديدة، لفترة الولاية الثانية، أثير لغط واسع وظهر لوبي يميني معارض لهذا التعيين، وخاصة أن هذا السياسي الجمهوري، والجندي السابق في حرب فيتنام، الذي سيخلف laquo;ليون بانيتاraquo; في البنتاجون، تعرف عنه مواقفه المستقلة، وعدم انخراطه في مجاملة مراكز القوى التقليدية المحافظة، المعروف عنها تفانيها وهوسها بتأييد حكومات اليمين في تل أبيب. وبسرعة دخل لوبي أنصار إسرائيل في واشنطن على خط السجال، داعين لعرقلة تمرير تعيينه في مجلس الشيوخ، معبرين عن قلقهم البالغ من تعيين هاجل، لاحتمال تأثير ذلك سلباً على صلابة الموقف الأميركي من الملف النووي الإيراني، وهو قلق ربما يدعمه أيضاً تعيين جندي قديم آخر من حرب فيتنام، هو جون كيري في وزارة الخارجية. ولكن قبل الاستطراد في خلفيات هذا الموقف، لعل تتبع سيرة هاجل نفسه، وخلفيات كثير من مواقفه، يفيد في رسم ملامح سيرته الشخصية وتوجهاته وتجربته السياسية، وهما أمران متشابكان إلى حد بعيد.

ولد تشاك هاجل في 4 أكتوبر عام 1946 في منطقة quot;نورث بليتquot; بولاية نبراسكا، وتخرج مع بلوغه سن العشرين، في عام 1966، بدبلوم مهني يؤهله للعمل في مجال الإذاعة والتلفزيون من معهد براون، ولكن حلول موعد خدمته العسكرية ذهب به في اتجاه مهني آخر، حيث انخرط خلال سنتي 67-1968 في سلاح المشاة بالجيش الأميركي، برتبة رقيب، وخدم مقاتلاً في فيتنام وهي أخطر ميدان في العالم يمكن أن يخدم فيه أي مجند من جيله، حيث أظهر من الشجاعة والتفاني في الخدمة ما جعله ينال عدة أوسمة وأنواط عسكرية تكللت بحصوله على وسام quot;بيربل هيتquot;. وخلال فترة خوضه الحرب في فيتنام مرت به تجربة بالغة الصعوبة، كان لها دور حاسم في رسم ملامح حياته وتوجهاته وقناعاته اللاحقة حتى اليوم. فقد كان يخدم معه في الجبهة شقيقه quot;تومquot; وفي خضم جنون الحرب وسعار المواجهات مع الثوار الفيتناميين، مرت عربة عسكرية كان يستقلها جنود أميركيون من ضمنهم شقيقه quot;تومquot; فوق لغم وانفجرت في الحال، وتطايرت جثث الجنود أشلاء متناثرة على مرمى البصر، وحين أسرع الجنود الأميركيون لنجدة رفاق سلاحهم المغدورين، كان هاجل من ضمنهم، ليجد نفسه واقفاً على ما تتبقى من أشلاء شقيقه وسط مشهد يلفه الحزن والدم والدمع والوجع، ارتسم في مخيلته، وجعله يقطع على نفسه عهداً بأنه لو قدر له ذات يوم أن يكون رجلاً ذا شأن، أو صانع قرار، أن يجند نفسه وجهده للحيلولة دون نشوب أية حرب غير ضرورية.

وفي سنة 1971 أكمل هاجل دراسته في جامعة نبراسكا، في quot;أوماهاquot;، وانخرط في عالم الأعمال، الذي حقق فيه نجاحات باهرة، توجت بتوليه إدارة شركة quot;أميركان إينفورميشن سيستمزquot;، التي تحولت مع مرور الوقت إلى فاعل كبير في مجال النظم الإلكترونية وأمن المعلومات، وقد تولت في سنة 1997 توفير آلات التصويت الانتخابي. ولكن كثيراً من أجهزتها ظهر فيما يعد أنه معيب، وقد تعرضت لكثير من الشجب والنقد واتهمت بعدم الموثوقية وخاصة منذ انتخابات سنة 2000 المثيرة للجدل، التي حملت بوش الابن إلى الرئاسة.

وكان هاجل قد تقدم لانتخابات مجلس الشيوخ سنة 1996 عن ولاية نبراسكا، وكان منافسه الرئيسي في ذلك الاستحقاق هو quot;بن نيلسونquot; حاكم الولاية، وجاءت المفاجأة مدوية بفوز هاجل بنسبة 54 في المئة ، كما أعيد انتخابه أيضاً في نفس المقعد سنة 2002 بنسبة كبيرة وصلت إلى 83 في المئة. وطيلة السنوات اللاحقة ظل هاجل عضواً نشطاً في ثلاث لجان مهمة من مجلس الشيوخ هي: لجنة الشؤون الخارجية، ولجنة التخطيط الحضري، ولجنة الخدمات السرية (الاستخبارات). وقد تميز بشكل خاص بكونه سيناتوراً جمهورياً مغرداً خارج السرب باستمرار، ومختلفاً مع كثير من مواقف وتوجهات المؤسسة الحزبية الجمهورية، وخاصة خلال فترتي رئاسة بوش، التي تغول فيها التيار اليميني المحافظ، في صفوف الحزب، ضمن من عرفوا إعلامياً بعصبة quot;المحافظين الجددquot;. وفي مقابل غلاة اليمين الجمهوري المحافظ عرف عن هاجل، توجهه التحرري- المحافظ في الوقت نفسه، ومبدئيته واستقلاليته، وحضور شخصيته القوي في مواقفه، وهذا ما جعل البعض يشبهه بالسيناتور الجمهوري الآخر، الناجي أيضاً من حرب فيتنام، مرشح الرئاسة السابق جون ماكين.

وضمن تغريده خارج السرب الجمهوري لعل أكثر ما اشتهر به هاجل هو موقفه المناهض بقوة لحرب العراق، وقد كان ضمن أوائل من قارنوا في 18 أغسطس 2005 بين حربي العراق وفيتنام، واشتهرت عنه سخريته اللاذعة من تصريحات نائب الرئيس السابق quot;ديك تشينيquot; بشأن الحرب. وفي مرحلة لاحقة نشط هاجل أيضاً ضمن الداعين لوضع جدول زمني لعملية انسحاب القوات الأميركية من العراق. وحين تكالب عليه النقد بسبب مواقفه الخارجة عن الإجماع الجمهوري بشكل صارخ، كان هاجل يرد بأنه ملتزم بالوفاء بالقسم الذي أداه على الدستور الأميركي فقط، وليس ملزماً باتباع مواقف الحزب أو رئيسه.

وفي يناير عام 2007 كان هاجل ضمن داعمي خطة إرسال زيادة إلى القوات في العراق، وقد وصف حينها سياسة بوش الخارجية بأنها quot;عمياءquot;، وبأنها الأكثر فشلاً منذ حرب فيتنام، ولذلك فقد كان عدد الناخبين الديمقراطيين الذين أعادوا التصويت عليه في ذلك العام، أكبر من عدد الناخبين الموالين لحزبه الجمهوري! وفي مارس من نفس السنة كان هو الجمهوري الوحيد الذي صوّت إلى جانب الديمقراطيين على قرار يقضي بفرض انسحاب من العراق في حد أقصى لا يتجاوز عام 2008. ومنذ ذلك التاريخ ظلت علاقة هاجل بحزبه اسمية فقط، كما ظل نوع من التوافق والغزل السياسي الصامت قائماً بينه وبين منافسي حزبه الديمقراطيين. ولذا فعندما قرر أوباما مؤخراً ترشيحه لمنصب وزير الدفاع، عادت إلى أذهان منتقديه كل تلك الوقائع وأشكال التقارب في المواقف التي سجلت خلال السنوات الماضية بينه وبين حزب أوباما.

كما عاد إلى الأذهان أيضاً عهد هاجل الذي قطعه على نفسه قبل أكثر من أربعين سنة، بأن يبذل كل ما في وسعه، لو قدر له أن يصبح صانع قرار ذات يوم، لمنع نشوب الحرب، ولإيجاد كافة سبل تجنبها، وقد خبر آلامها وأوجاعها في تجربته الشخصية كجندي محارب، وفي محنة عائلته وقد رأى النهاية المفجعة التي انتهى إليها شقيقه quot;تومquot;.

وقد أعيد ربط كل ذلك بتحديات احتواء خطر إيران النووي، وموقف هاجل المرتقب إزاءه. غير أن هنالك من المراقبين من يرى أيضاً أن ما يذهب إليه المنتقدون الجمهوريون والمحافظون الآن، لا مبرر له، فاختيار هاجل في منصب وزارة الدفاع، وكيري، في الخارجية، يدل على أن أوباما قد قرر الاعتماد على رجلين خبرا الحرب، وتمرغاً في طين وحلها، ويعرفان كيف يخوضانها، إن لزم الأمر. وفي الوقت نفسه، يعرف هاجل أيضاً أهوالها وكوارثها، ويستطيع في ضوء ذلك بذل كل جهد ممكن لتجنبها دون الإضرار بمصالح بلاده والعالم دعماً للسلام والاستقرار، ووفاء أيضاً بتعهده هو لنفسه وللتاريخ يوم مصرع شقيقه quot;تومquot;!