رحيّل غرايبة

يهدف الإسلام أول ما يهدف إلى تحرير العقل البشري، وإعادة بنائه بطريقة سليمة تجعله قادراً على التفكير والنظر، والفهم والتفقّه، والتحليل والتركيب والاستنباط واتخاذ القرار الصحيح واختيار البديل المناسب.
جاء الإسلام ليحرر العقل من التقليد الأعمى، الذي يلغي دوره الذي خُلق من أجله من نظرٍ وتدبرٍ وتفكّر، فقال الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم متهكماً على الذين لا يستعملون عقولهم :{إنّا وجدنا آباءنا على امّة، وإنّا على آثرهم لمقتدون، أو لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}، كما جاء الإسلام ليحرر العقل من الأساطير والخرافات والأوهام والتطيّر والتشاؤم وكلّ ما لا يمتّ للحقيقة بصلة.
إنّ الإنسان الذي كرّمه الله عزّ وجلّ بالعقل وجعله مناط التكليف، ليس من المعقول بعد ذلك أن يعمد الله إلى الغاء العقل أو التقليل من دوره، أو منعه من ممارسة التفكير والنظر والتحليل والاستنباط، ولا يعقل أنّ يشرع التقليد الأعمى الذي يخلو من المحاججة وطلب الدليل، ولذلك عمد القرآن إلى تأسيس المنهج العلمي؛ ليكون ملكة العقل التي تمكنه من حسن الفهم والقدرة على معرفة الحق.
ومن هنا فإنّ القرآن يعمد إلى توجيه العقل وإكسابه المهارات المطلوبة التي ترفع من قدرته على ممارسة دوره، ولم يعمد إلى التلقين، أو الحشو أو إصدار التعليمات الجافّة الخالية من الروح والاحترام والتقدير، ولذلك نجد أنّ القرآن حضّ الإنسان على اتباع الطرق الصحيحة في الحصول على المعلومات وجمع البيانات، فقال:{ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إنّ السمع والبصر والفؤاد، كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً}، وفي الوقت نفسه نهى الإنسان عن اتباع الوهم والظنّ في تحصيل المعلومات فقال: {إن يتبعون إلاّ الظنّ، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}.
الإنسان في نظر الإسلام ليس صندوقاً للمعلومات وليس شريطاً يتمّ التسجيل عليه بلا حول ولا قوة، ولذلك فقد أمر القرآن الإنسان بالتوثق ممّا يسمع وأن يلجأ دائماً إلى منهج التبيّن والتثبت من المعلومة، فقال:{يا أيّها الذين آمنوا، إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوماً بجهالة...}.
وهناك آيةٌ قصيرة ترسم منهجاً علمياً راسخاً في التعامل مع الأخبار والمنقولات، هذه الآية هي :{قل هاتوا برهانكم}، حيث يجب طلب الدليل بشكلٍ دائم، ومن وظيفة العقل التدقيق بكلّ معلومة والنظر بكلّ دليل.
وبناءً على ما سبق فإنّ المجتمع البشري مطالبٌ دائماً بامتلاك القدرة على إدارة نفسه بنفسه من خلال مهارة التفكير ومهارة التفاعل مع الكون والموجودات، ومهارة اكتشاف النواميس وتسخيرها، ومهارة الاجتهاد والتشريع وإصدار القوانين والأنظمة التي تنظم العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والشعوب ومع كلّ الموجودات في كلّ وقتٍ وفي كلّ حين. وكل ما صدر عن العلماء من اجتهادات فهي محل احترام ولكنّها في الوقت نفسه محلّ مراجعة وتقويم وتطوير واستدراك أو إلغاء، بلا أدنى حرج.
الإسلام جاء ليضع المبادئ العامّة، والقواعد الكبيرة التي توجّه العقل، وتجعله قادراً على امتلاك المعرفة التي تهديه إلى الخير والنجاة ومعرفة الطريق القويم، بلا إلغاء أو إكراه أو تقليد أو إهانة، ولا يكون عبر التعليمات الصارمة بالتفاصيل.
والذين يتحدثون عن مبدأ السمع والطاعة، إنّما يتحدثون بشكلٍ قاصرٍ ومجتزأ ومبتور، فمبدأ السمع والطاعة في الإسلام هي الطاعة المبصرة التي تحترم العقل وتقدم له الدليل والبرهان المتفق مع التفكير السليم وحسن الاستدلال، وليس عبر مصادرة العقل والإرادة والكرامة، وهذا مدلول ما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنّما الطاعة في المعروف).
فالدولة في الإسلام حسب هذا المفهوم دولة مدنية، تخضع لإدارة البشر، الذين يمتلكون حق اختيار السلطة وحق مراقبتها وحق تقويمها وحق عزلها عندما تستحق العزل، وحق التشريع والتقنين، المنبثقة من مرجعية الإسلام القيمية العليا، المتمثلة بالمقاصد العامّة التي يجمع عليها العقلاء.