عبد الوهاب بدرخان

عندما طرح حمادي الجبالي تشكيل quot;حكومة كفاءاتquot;، أراد أن يقول إنه تعلم شيئاً من السنة التي أمضاها رئيساً للحكومة الأولى بعد الانتخابات الأولى بعد الثورة في تونس.

تعلم أن البلاد بحاجة إلى وزراء أصحاب اختصاص لإدارة شتى القطاعات، أكثر مما تحتاج إلى سياسيين مهتمين بمصالح أحزابهم المشاركة في الائتلاف الحكومي. وقد شهد quot;الجباليquot; طوال الشهور الماضية وقائع التآكل والتعفن السريعين، سواء في علاقات الثلاثة (النهضة، المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل من أجل الحريات والتغيير)، أو في أوضاع كل حزب على حدة. فـquot;المؤتمرquot; بزعامة رئيس الجمهورية أصيب بتصدعات عدة، وquot;التكتلquot; بزعامة رئيس المجلس التأسيسي انهارت شعبيته، أما quot;النهضةquot; الذي حافظ على تماسكه فاشتد الصراع والتنافر بين أجنحته الثلاثة.

لذلك وقع عنوان quot;حكومة الكفاءاتquot; وقوع الصاعقة على الوسط الحكومي، بالأحرى quot;النهضويquot;، خصوصاً أنه جاء من الأمين العام للحزب. والأخطر أنه يفترض مراجعة وتقويماً مفادهما أن حكومة سياسية لا تعتبر مفيدة، فضلاً عن أنها لا توحي بالثقة، لا في الداخل ولا في الخارج، وقد تبين بوضوح أن التفويض الذي منحته صناديق الاقتراع لم يكن كافياً لإشاعة الهدوء والوئام والاستقرار، وهي شروط ضرورية للحصول على قروض ومساعدات لإنهاض الاقتصاد وإحياء التنمية. استهدف الجبالي إحداث صدمة، تحديداً في صفوف حزبه، الذي يعتبر عموماً بمثابة الحزب الحاكم، لإيقاظه من زهو الهيمنة وإنذاره بأن منهج الحكم يلزمه علاج وتصحيح.

قد لا يكون quot;الجباليquot; ذهب بعيداً في نقد ذاته وتجربته، لكن الترحيب الواسع الذي حظي به اقتراحه، حتى في الخارج، أفهمه أنه ومجتمعه على موجة واحدة. فالمطلوب حكومة يشعر معظم التونسيين بأنها معبرة عنهم، تحظى بالاحترام وتستطيع العمل بعيداً عن المماحكات الحزبية. وهذا ما تفتقده الدولة التي لا تزال في مرحلة انتقالية، رغم أن الفائزين في انتخابات أكتوبر عام 2011، يظنون أن دولتهم قامت فعلاً وما عليهم سوى quot;تمكينهاquot;.

كان quot;الجباليquot; نفسه ارتكب الكثير من الهفوات والأخطاء، ولم يكن مؤهلاً للدور الذي اختير له، لكنه على عكس محازبيه عرف كيف يتخطى بسرعة عقلية الخارج من السجن، ولا يملك خبرة سواها ليكتسب ما أمكن من صفات رجل الدولة. وبهذه الخبرة الجديدة خرج ليقول إن حزبه، وإن كان الأكبر والأكثر تمثيلاً حالياً، لا يمكنه في هذه المرحلة أن يقود البلاد إلى الاستقرار. لكن الحزب لم يرض بهذا الحكم، وأصرَّ على أن الحكومة يجب أن تكون quot;سياسيةquot;، أو على الأكثر سياسية مطعمة باختصاصيين من التكنوقراط. وحتى هؤلاء يجب أن يخضع اختيارهم لمعايير ولائية. الحجة التي انطلق منها quot;النهضةquot; أن الانتخابات منحت quot;شرعيةquot; لمن انتخبوا، ولا بد من الحفاظ على هذه الشرعية، بمعزل عن الانهيار الذي أصابها.

كان قبول quot;الحزب الحاكمquot; للدروس التي استخلصها quot;الجباليquot; سيعني اعترافاً بالفشل، بما يشكل من ضربة معنوية لـquot;النهضةquot;، وهو لما يزل في بدايات تغلغله في دهاليز الإدارة للسيطرة عليها. لذلك تغلبت اعتبارات هيبة الحزب على الاعتبارات الوطنية التي قذفها quot;الجباليquot; في وجه مجلس شورى quot;النهضةquot;. وقد حاول رئيس الحكومة، قبل استقالته، وبعدما أعاد الحزب ترشيحه لتشكيل حكومة مطعَّمة، أن يمتحن مرشحيه فطلب الاتفاق على مواعيد معلنة للانتهاء من كتابة الدستور الجديد، ولإجراء الانتخابات التشريعية الأولى بعد الثورة. وهو بذلك سلط الضوء على استحقاقين أدّى التأخير شبه المتعمد لهما إلى تأجيج الاحتقان في المجتمع، وبالتالي إلى تفجير العنف السياسي الذي أودى بحياة شكري بلعيد، وقبل ذلك بحياة لطفي نقض السياسي منسق حزب quot;نداء تونسquot; في ولاية تطاوين على أيدي quot;نهضوييquot; روابط quot;حماية الثورةquot;.

سيبقى شرطا الدستور والانتخابات ماثلين أمام رئيس الحكومة الجديد علي العريض، الذي كان خرج من السجن ليتولَّى بعد شهور وزارة الداخلية. ورغم أن اللامهنية شابت أداءه في الداخلية، إلا أنه تمكن من تحسينه بالتقليل من الأخطاء لكن من دون إنجازات. من الواضع أن مرتبته الحزبية وانتماءه إلى الجناح المتشدد في quot;النهضةquot; حسما تقدمه على المرشحين المفترضين لخلافة الجبالي. فهل أن ما يريح متشددي quot;النهضةquot; هو ما يريح تونس والتونسيين؟ لا يبدو أن هذا هو المعيار، فالأكيد أن اختياره تم بناء على التخطيط للانتخابات. كان بين الصعوبات التي برزت خلال التفاوض مع الجبالي تصميم quot;النهضةquot; على التمسك بالوزارات السيادية، تحديداً الداخلية التي زرع فيها quot;العريضquot; العديد من الحزبيين في مواقع مهمة، ويخشى تحييد هؤلاء أو الاستغناء عنهم لو جاءت شخصية مستقلة على رأس الداخلية.

لعل الدرس الأهم للإسلاميين أن الفوز في الانتخابات لا يعني نجاحاً في الحكم، وإنما يعني أن المجتمع أراد أن يثق بهم وأن يختبرهم. وكانت الوصفة الفضلى أن يعتمدوا على حكومات وحدة وطنية في هذه المرحلة، إلا أن الاستعجال في الاستحواذ على الحكم والمؤسسات أدى إلى اهتزاز الثقة بهم، والأخطر أنه قسم الشعوب والمجتمعات. هذا ما شهدته تونس، وما تشهده مصر حيث بات المطلب الأول تغيير الحكومة.