محمد السعيد ادريس

للمرة الثانية، وربما لا تكون الأخيرة، يسيء مسؤولون إيرانيون تقدير ما يمكن وصفه بrdquo;الحالة في مصرrdquo;، وعلى الأخص في هذه الظروف شديدة الحساسية وشديدة الاختلاط في المفاهيم . المرة الأولى عندما تعجل مسؤولون إيرانيون كبار، على رأسهم شخص المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، في وصف الثورة في مصر بأنها ldquo;ثورة إسلاميةrdquo;، بل وأنها امتداد للثورة الإسلامية في إيران لا لشيء إلا لأن سقوط رأس النظام في مصر توافق زمنياً مع سقوط النظام الشاهنشاهي في إيران قبل اثنين وثلاثين عاماً (11 فبراير/شباط 1979) .

كان هذا التقدير متسرعاً لسببين أولهما أن دور الإسلاميين في الثورة المصرية كان هامشياً، ففي حين حرم السلفيون الخروج على الحاكم، تأخر نزول الإخوان إلى ميدان التحرير، وكانوا الأسرع في مغادرة الميدان وفتح الحوار مع عمر سليمان الذي عين نائباً للرئيس، والتحالف مع المجلس العسكري الحاكم في مرحلة لاحقة بعد سقوط رأس النظام .

وقد تسبب هذا التوصيف في إحراج موقف الإخوان مع شركائهم من القوى الوطنية، وغرس بذور الشك مبكراً في جدية التزام الإخوان بدعوة الدولة المدنية الديمقراطية التي أعلنوا انحيازهم إليها . وثانيهما أن إيران لم تجرؤ على وصف الثورة السورية على أنها ldquo;ثورة إسلاميةrdquo; لا لشيء إلا لأنها استهدفت إسقاط أهم حلفائها، وعلى العكس كان الموقف الإيراني هو الانحياز إلى نظام بشار الأسد، ووصف الثورة بأنها ldquo;مؤامرة خارجيةrdquo; .

هذا التسرع الإيراني في وصف الثورة المصرية على أنها ثورة إسلامية وعلى أنها تأكيد لمصداقية الثورة الإيرانية، وأن الثورة في مصر امتداد للثورة الإيرانية، أساء كثيراً ومبكراً إلى فرص تطوير علاقات جديدة بين مصر وإيران على عكس ما كان متوقعاً أو مأمولاً، لكن الانحياز الإيراني إلى نظام الأسد في سوريا، يمكن اعتباره على أنه كان بمنزلة ldquo;صفعة قويةrdquo; لكل الجهود الرامية إلى تحسين العلاقات بين إيران ومصر . فالتيار السلفي بأطيافه المختلفة في مصر وجدها فرصة للتنديد بإيران، واعتبار الانحياز الإيراني إلى نظام بشار الأسد ldquo;انحيازاً مذهبياًrdquo;، وأن الصراع الدائر في سوريا ldquo;صراع مذهبيrdquo; .

هذا التوصيف وضع عراقيل هائلة أمام أي مسؤول سياسي مصري يمكن أن يفكر بفتح صفحة جديدة من العلاقات مع إيران من منظور إدارة العلاقات الإقليمية، وعلى قواعد المصالح الوطنية والاعتبارات الاستراتيجية وتوازن القوى الإقليمي .

أما التيار الليبرالي المؤهل، فكرياً وسياسياً، فيرفض إقامة علاقات قوية مع إيران، ومجمل فصائل شباب الثورة، لم يكن ممكناً، أن يقبل التعامل مع إيران، وهي منحازة إلى نظام يقتل شعبه ولا يريد أن يمنحه حريته في اختيار نظام الحكم الذي يريده . لم يكن ممكناً لشباب الثورة الذي أسقط حاكماً متهماً بالفساد في مصر، أن يقبل بإيران التي تدعم حاكماً مثله في سوريا .

كان يمكن لإيران أن تعي الدرس، وأن تفهم ما تحدّث به الرئيس المصري محمد مرسي أمام مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي في مكة المكرمة، ومن بعده مؤتمر قمة حركة عدم الانحياز في طهران، من أن الموقف الإيراني من حق الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة واختيار نظام الحكم الذي يريده، والانحياز إلى مبدأ تداول السلطة، أصبح المحدد الأهم في علاقة مصر مع إيران، وكان يمكن لإيران أن تفهم وتعي خصوصية الثورة المصرية وكيف أن مطلب الدولة المدنية الديمقراطية، ومبدأ المواطنة المتساوية بين كل المصريين، ورفض المصريين علانية الدولة الدينية والدولة العسكرية، هو خيار مصري أصيل قبل الثورة وبعد الثورة .

كان يمكن لإيران أن تفهم أن تطوير العلاقات المصرية - الإيرانية رهن بمواقف ومبادرات سياسية إيرانية من أجندة أولويات مصر السياسية وبالذات أمن دول الخليج العربي، والتزام إيران عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتأسيس شراكة سياسية - اقتصادية بعيدة تماماً عن الأطر الدينية والمذهبية، وكان يمكن لإيران أن تعي أن مصر لا يمكن أن تكون أبداً ساحة للتبشير المذهبي، لا لشيء إلا لأن المصريين، بطبيعتهم، غير مذهبيين، ولأن خيارهم الاستراتيجي هو الدولة المدنية الديمقراطية، وأن المدخل الديني والمذهبي إلى تأسيس شراكة إيرانية مع مصر هو المدخل الأسوأ الذي يمكن أن يدمر أي فرص حقيقية لتطوير علاقات مصر مع إيران .

لم تصل الإشارات المصرية التي أقدم عليها مصريون عند زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الأولى إلى مصر على هامش حضوره مؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي بالقاهرة، وعلى الأخص زيارته مشيخة الأزهر والاستقبال الفاتر له من متظاهرين سلفيين أمام مسجد الإمام الحسين . فلقاء الرئيس الإيراني مع شيخ الأزهر لم يكن إيجابياً بالمرة، وهو لقاء حضره إضافة إلى الإمام الأكبر، مفتي الديار المصرية، وهيئة كبار العلماء، وكان لافتاً أن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لم يكن في استقبال أو في وداع الرئيس الإيراني، ولم يحضر المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الإيراني بعد اللقاء، واكتفى بتفويض كبير مستشاريه لحضور المؤتمر الذي تلا فيه بياناً لم يأتِ على هوى الرئيس الإيراني أو توقّعه . فقد قال في هذا البيان أبرز ما دار في لقاء شيخ الأزهر مع الرئيس الإيراني، وعلى الأخص مطالبة الدكتور أحمد الطيب الرئيس الإيراني باحترام البحرين كدولة عربية شقيقة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الخليجية، ووقف النزف الدموي في سوريا الشقيقة والخروج بها إلى بر الأمان، لكن ما هو أصعب هو مطالبته بإعطاء ldquo;أهل السنة والجماعةrdquo; في إيران، وعلى الأخص في إقليم الأحواز حقوقهم الكاملة كمواطنين، ورفض المد الشيعي ldquo;في بلاد أهل السنة والجماعةrdquo; .

رسائل واضحة وصريحة جداً تؤكد أن مصر غير مؤهلة بعد لعلاقات قوية مع إيران، وأن هناك حالة احتقان واضحة لا تسمح حتى بتجديد دعوة ldquo;التقريب بين المذاهبrdquo; بسبب تنامي قناعة الأزهر، والسلفيين على الأخص، بأن هناك ما يمكن اعتباره ldquo;مدّاً شيعياًrdquo; تدير به إيران علاقاتها الخارجية . لكن، للأسف لم تصل أي من هذه الرسائل إلى أولي الأمر في إيران، الذين لم يكلفوا أنفسهم مشقة فهم وجود كوابح وضغوط تحول دون انفتاح مصر على علاقات تحالف أو صداقة أو حتى تقارب مع إيران التي ليس لمصر، حتى الآن، دون كل الدول العربية وكل الدول الإسلامية، علاقات على مستوى السفراء معها .

لم يشغل قادة إيران أنفسهم بإدراك أن أولويات النظام الحاكم في مصر الآن (حكم الإخوان المسلمين)، لم تتغير كثيراً عن أولويات النظام السابق، وعلى الأخص في مجال العلاقات الإقليمية والدولية، وفي مجال إدارة الاقتصاد المصري، فالنظام الجديد صديق للولايات المتحدة، وملتزم بمعاهدة السلام مع الكيان الصهيوني ولم يوقف التنسيق الأمني السابق مع هذا الكيان، فضلاً عن التزامه بأمن ldquo;إسرائيلrdquo; . كما أنه يعتمد على المعونات والتمويل الخارجي لدعم الاقتصاد الوطني، وحريص لهذا السبب على علاقات قوية مع الولايات المتحدة والغرب عموماً ومع الدول العربية الخليجية، فضلاً عن أنه شريك سياسي للسلفيين المصريين المعادين مذهبياً لإيران . وهذه كلها كوابح تحول دون أي اندفاع مصري راهن نحو إيران .

لم يستوعب الإيرانيون تداعيات إساءة تقدير الموقف عند قيام الثورة المصرية، وها هم يكررون الخطأ للمرة الثانية في عدم استيعاب التداعيات السلبية لزيارة الرئيس الإيراني إلى مصر، وكيف أن مصر غير مؤهلة الآن لطرح نموذج لعلاقات صداقة أو تحالف، وكيف أن المدخل المذهبي هو أسوأ مدخل يمكن أن يطرح لتطوير العلاقات بين البلدين . دليل عدم الاستيعاب تأكد بالرسالة التي بعث بها 17 عالماً ومفكراً إيرانياً إلى الرئيس مرسي دعوه فيها إلى الاقتداء بنظام ldquo;ولاية الفقيهrdquo; وتطبيقه في مصر، وأعلنوا استعدادهم للمساهة في نقل ldquo;الإنجازاتrdquo; التي حققتها إيران في ظل هذا النظام، إلى مصر .

الرسالة نشرتها وكالة ldquo;فارسrdquo; الإيرانية شبه الرسمية وذكرت أن من بين الموقعين عليها مستشارين للمرشد الأعلى السيد علي خامنئي من بينهم علي أكبر ولايتي وزير الخارجية الأسبق مستشار المرشد للشؤون الخارجية، وركزت على إبراز ما وصفته بrdquo;التجارب الفذةrdquo; التي اكتسبتها الثورة الإسلامية في إيران، لا سيما في مرحلة بناء نظام الحكم القائم على أسس الشريعة الإسلامية، والإنجازات التي حققتها إيران في ظل الحكومة الشعبية الدينية، واعتبرت أن ldquo;أفضل مسار في الحياة هو الذي يكون مستوحى من ولاية الفقيهrdquo; .

هل هناك ldquo;هذيان سياسيrdquo; أكثر من ذلك؟ هل ولاية الفقيه هي أهم ما تقدمه إيران الآن لتأسيس علاقات مع دولة أكد فيها إمامها الأكبر قبل أيام قلائل أنها ldquo;معقل لأهل السنة والجماعةrdquo;؟

هل ولاية الفقيه هي نصيحة إيران الآن لمصر كي تخرج من أزماتها، ومصر تعيش أحداث ثورة هدفها إقامة دولة مدنية ديمقراطية لا دينية ولا عسكرية ملتزمة بالحرية والكرامة والعدالة؟

ولاية الفقيه أمر اختلف عليه كبار الأئمة وآيات الله من أتباع المذهب الشيعي خارج إيران وداخلها، رفضها الإمام أبو القاسم الخوئي (المتوفى عام 1992) وكان مرجع زمانه، وتربع على رأس الحوزة العلمية في النجف، كما رفضها كل من آية الله محمد جواد مغنية وآية الله محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، كما رفضها كبار آيات الله في قم ورجال بارزون دينياً وسياسياً داخل إيران منهم محسن كديفور وغيره، أي أنها في الشيعة ليست محل إجماع، فما بالنا لدى السنة؟

من كتبوا هذه الرسالة لم يخدموا إيران ولا مبدأ ولاية الفقيه، وليسوا أصحاب مصلحة في إقامة علاقات قوية مع مصر .