عبدالوهاب بدرخان

لم تمضِ سوى أيام قليلة على الإشارات الأميركية المشجعة لتسليح المعارضة السورية laquo;المعتدلةraquo;، ما انعكس سريعاً على الأرض، حتى عادت واشنطن فأطلقت إشارات معاكسة تُوصف عادةً بأنها من نوع laquo;الرسائل الخاطئةraquo; إلى النظام السوري الذي بمقدار ما يعتقد بأنه يواجه laquo;مؤامرةraquo; بمقدار ما هو متيقن بأن مصالح laquo;المتآمرينraquo; عليه هي معه، ولذلك هم متمسّكون به ولا غنى لهم عنه. فكيف يمكن أن تُقرأ تصريحات الوزير جون كيري إلاّ بأنها محبطة للمعارضة ومشجعة للنظام، خصوصاً حين يقول بوضوح: laquo;نريد أن يجلس الأسد والمعارضة إلى طاولة المفاوضات بغية تشكيل حكومة انتقالية ضمن الإطار التوافقي الذي تم التوصل إليه في جنيفraquo;. كما أنه لم يعد يطالب الأسد وحده بـ laquo;تغيير حساباتهraquo; بل يريد إلى طاولة المفاوضات laquo;معارضة سورية مستعدة للتعاونraquo;، أي أن عليها هي الأخرى أن تغيّر حساباتها.

لا يمكن القول إن هذا التذبذب الأميركي جديد أو مفاجئ، ولا يُعزى فقط إلى التردد الملازم لباراك أوباما، بل إن تفسيره الوحيد هو أن واشنطن نفسها لم تغيّر حساباتها. فالحل بالنسبة إليها يجب أن يكون سياسياً، ويكون النظام جزءاً منه، ولا سبيل إليه إلا بـ laquo;حوارraquo; بين الطرفين، وهو ما يشكل جوهر تفاهماتها مع روسيا. وعلى رغم أن واشنطن سلّمت قيادة هذا الحل إلى موسكو، فإن كل ما فعلته هو التصعيد اللفظي - توضيحاً لرؤيتها - مرجّحة أن أيام النظام laquo;باتت معدودةraquo;، أو مؤكدةً أنه laquo;سيرحلraquo; أو laquo;يجب أن يرحلraquo;.

ولما كانت هيلاري كلينتون أنهت فترتها الوزارية ولم تفلح في إقناع سيرغي لافروف بأن laquo;حل جنيفraquo; يجب أن يبدأ من دون الأسد، فإن خلفها كيري ينطلق من حيث انتهت أي بالتسليم بوجهة النظر الروسية التي تريد laquo;حواراًraquo; مع الأسد ولا تمانع أن يؤدي laquo;الحلraquo; إلى رحيله. وفيما لم تخذل موسكو حليفها في أي مرحلة، لا عسكرياً ولا سياسياً، يبدو كيري وقد نسي أن laquo;الائتلافraquo; المعارض ولد بناءً على خطة سياسية قوامها زعزعة شرعية النظام وتلحظ نقل تمثيل سورية إلى المعارضة في السفارات والمحافل الدولية والعربية. لكن المشرفين على ولادته خذلوه عسكرياً حين حجبوا السلاح عن laquo;الجيش الحرّraquo; في الوقت الخطأ، وسياسياً حين تنكّروا لالتزاماتهم. فمثل هذه الخطوات الناقصة والمتلكئة، ثم المبادرة المتأخرة لتصحيحها أو تعويضها، كان لها أسوأ النتائج على معنويات المعارضة laquo;المعتدلةraquo; ومحاولات laquo;توحيدهاraquo; أو تنظيم عملها وتذويب تناقضاتها، كما أنها ساهمت، عدا كلفتها البشرية الباهظة، ساهمت بفاعلية في إبراز الجهاديين laquo;المتطرفينraquo; الذين تريد الـ laquo;سي آي أيraquo; الآن تصنيفهم للعمل على تصفية laquo;القاعديينraquo; منهم.

لم يفِ laquo;الأصدقاءraquo; إلا بجزء ضئيل جداً مما وعدوا laquo;الائتلافraquo; به لقاء اتجاهه إلى laquo;حوار مع النظامraquo;، لكن الولايات المتحدة تضغط لانتزاع انخراطه في هذا laquo;الحوارraquo;. وما حصل منذ صيف 2012 عندما طُلب من laquo;المجلس الوطنيraquo; المعارض تشكيل حكومة ثم طلب التريث بها، تكرر تماماً مع laquo;الائتلافraquo; بين تعجّل وإبطاء. وإذ فُهم إعلان الجامعة العربية استعدادها لقبول laquo;الائتلافraquo; في مقعد سورية على أنه استجابة لضوء أخضر أميركي، إلا أن التأرجح بين تشكيل laquo;حكومة موقتةraquo; أو laquo;هيئة تنفيذيةraquo; أظهر حرصاً أميركياً على عدم حرق أي ورقة قد تحبط الدور الروسي. ومع استبعاد laquo;حكومة المعارضةraquo; كونها تناقض laquo;الحكومة الانتقاليةraquo; كانطلاقة لـ laquo;حل جنيفraquo;، وُجد أيضاً من يحذّر من أن laquo;الحكومةraquo; أو laquo;الهيئةraquo; قد تشعلان سباقاً إلى التقسيم لأن الأطراف الراغبة في إطلاق حل سياسي، أي النظام وروسيا وحتى أميركا وإسرائيل وإيران، ستستغلّهما ضد laquo;الائتلافraquo;. وعلى رغم ذلك فإن تركيا وأطرافاً عربية عدة لا تطمئن إلى خيار آخر غير رحيل رأس النظام وأعوانه، وتعتبر الحل السياسي بمواصفاته الروسية واحداً من اثنين: إما أنه بحث عن سراب، أو أنه مجرد سيناريو لإبقاء النظام وإنعاشه ليعود فيشكل خطراً على المعارضة وكل من يساندها. لذلك شجعت هذه الأطراف laquo;الائتلافraquo; على تشكيل حكومة خلال اجتماعاته في إسطنبول تطبيقاً لقرار كان اتخذه سابقاً في القاهرة، من دون الالتفات إلى الفتور الأميركي حيال الفكرة.

على رغم أن المواقف الأميركية الأخيرة رفعت عملياً laquo;الفيتوraquo; عن تسليح المعارضة، بدليل أن بريطانيا وفرنسا تواصلان السعي إلى المساهمة فيه، إلا أن نيات واشنطن استعادت غموضها عبر الإصرار على أن لا هدف للتسليح سوى الضغط من أجل laquo;الحوارraquo; وليس إسقاط النظام عسكرياً. ثم أنها بادرت للمرة الأولى إلى دعوة الفرع الخارجي لـ laquo;هيئة التنسيقraquo; (المعارضة في الداخل) لزيارتها، بعدما استقبلت موسكو ممثلي هذا الفرع، وكأن واشنطن تريد الإيحاء بأن ثمة بديلاً جاهزاً للتحاور مع النظام، إذا واصل laquo;الائتلافraquo; تردده في المضي بـ laquo;مبادرة الحوارraquo; المشروطة التي طرحها رئيسه معاذ الخطيب. لا شك أن الروس والأميركيين مدركون أن laquo;هيئة التنسيقraquo; معارضة نخبوية محدودة التمثيل إلا أن فرعها الخارجي استمدّ أخيراً دعماً وقبولاً من إيران مما عزز موقعه عند الأطراف الباحثة عن تسوية، لكنهم مدركون أيضاً أن حواراً من دون laquo;الائتلافraquo; يبقى بلا معنى. وما يدركونه خصوصاً ويعجزون عن حلحلته هو أن تركيبة laquo;الائتلافraquo; لا تسمح له بالذهاب إلى حوار من دون ضمانات أميركية - روسية مسبقة وتنازلات ملموسة من النظام.

في لقاء مع أحد وفود المعارضة بادر لافروف إلى السؤال: هل أنتم ممن يريدون حلاً سياسياً يبدأ برحيل الأسد أم ينتهي إلى رحيله؟ وكان الجواب سؤالاً أيضاً: وهل لديكم ضمانات لحل ينتهي برحيله؟ والواقع أن مثل هذا التبادل تحوّل منذ أكثر من نهاية 2011 إلى laquo;حوار طرشانraquo; عقيم. فالروس لا يضمنون أي شيء، ويقدمون موقفهم هذا بأنه تطبيق لمبدأ laquo;عدم التدخلraquo;، متغاضين عن التدخل السافر بالمبالغة في تسليح النظام ورفد عملياته بخبراء والمسارعة في تلبية الصفقات التي تطلبها إيران لمصلحته وتدفع ثمنها نقداً. في النهاية يمكن اختزال موقف روسيا بأنه حماية لزبون لديه طلبيات ضخمة وعاجلة وهذا كافٍ لعدم التخلّي عنه.

في الآونة الأخيرة ازداد الاقتناع بأن الطريق إلى laquo;الحل السياسيraquo; لا بدّ أن يمرّ بتغيير في المعادلة الميدانية، طالما أن الأسد متمترس وراء الخطة السياسية التي أعلنها، وهي غير واقعية. سبق للمعارضة أن طرحت شروطاً لم تعد صالحة راهناً نظراً إلى التغيير الهائل في طبيعة الصراع، لكن أحدها يطالب بالإفراج عن المعتقلين الذين يراوحون وفقاً للتقديرات بين مئة ألف ومئة وستين ألفاً، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال. وفي المقابل توصلت التحقيقات الدولية إلى تسمية 150 شخصاً تعتبرهم مجرمي حرب أو مسؤولين عن ارتكاب أعمال قتل وتعذيب. ومن شأن النظام أن يكون قادراً على التنازل في هذين الملفّين، إذ يُطلق المعتقلين من جهة ويقدّم 50 على الأقل من الأشخاص المتورّطين إلى المحاكمة. فبمثل هاتين المبادرتين يمكن أن يشق طريقاً إلى التفاوض، على أن يتبع ذلك مباشرة وقبل بدء الحوار تشكيل مجلس عسكري مناصفة مع المجالس العسكرية للمعارضة، فضلاً عن دمج الأجهزة الأمنية في جهاز واحد يشكّل مناصفةً أيضاً، لكي يشرفا على إعادة هيكلة المؤسسات ونزع الإمرة من أيدي الضباط الحاليين لأن إبقاءهم فالتين من شأنه أن يفسد أي حوار ويفشله. فهؤلاء الضباط ليسوا أهم من سورية ولا أهم من الطائفة، بل إن في محاسبتهم إنصافاً للعلويين الذين رفع بعض منهم قبل فترة شعار laquo;لكم القصور ولنا القبورraquo; الموجّه إلى أبناء الطائفة بعدما ذهبوا بعيداً في مغامرة النظام.