احمد سيد احمد

تعكس المظاهرات التي اندلعت في ميدان تقسيم في اسطنبول وبعض المدن الكبري مثل أنقرة وأزمير

طبيعة التغيرات التي تشهدها المنطقة وحالة التشابكات الإقليمية ما بين الداخل والخارج, وتأكيد أن ما يحدث هو كاشف عن الصراع الثنائي الحالي في دول المنطقة ما بين سني شيعي, وإسلامي علماني, وثوري محافظ, وهو الصراع الذي بدأت تنفخ فيه كثير من الأطراف كل حسب مصالحه وأهدافه وأضحت الآلة الإعلامية هي السلاح الأبرز فيه.
التوابع الإقليمية للمظاهرات التركية تجسدت في عدد من الأمور:

أولا: البعض الذي رفض الدور التركي في ثورات الربيع العربي خاصة تونس ومصر وليبيا وسوريا, يعتبر أن المظاهرات التي اندلعت في تركيا, وإن بدت لأسباب بيئية وتطورت إلي صراع علي الهوية ما بين العلمانية, التي يقودها حزب الشعب, والإسلامية التي يقودها حزب العدالة والتنمية, تعكس استنساخا لربيع عربي جديد بنسخة تركية تكشف زيف أردوغان كمدافع عن حريات وحقوق الشعوب العربية في الوقوف ضد الطغيان والمستبدين, والذي كان أول من نادي برحيلهم وتنحيهم, وهو الآن يواجه بذات الموقف لكنه استخدم نفس أساليبهم في قمع المظاهرات وفضها.
وقاد النظام البعثي الدموي في سوريا هذه الادعاءات لتوظيف تلك المظاهرات لصالحه في محاولة لتخفيف الضغط عنه وتوجيه الأنظار عن مذابحه في القصير وغيرها من المدن السورية, وانتقاما من الدور التركي المساند للجيش الحر, ولذلك سارع المسئولون السوريون, باتهام أردوغان بالطاغية ومطالبته بالرحيل, بل وطالب البعض بتسليح متظاهري ميدان تقسيم, وكل هذا في محاولة فاشلة وفاضحة لمنطق التفكير الأمني والبعثي السوري, متجاهلا أن تركيا دولة ديمقراطية لديها آليات واضحة للتغيير السلمي عبر صناديق الانتخابات, وأن مثل تلك المظاهرات هي ظاهرة طبيعية في الدول الديمقراطية, رغم الخطأ الفادح للحكومة التركية في التعامل الأمني الأرعن لفض المظاهرات.
ثانيا: حاول البعض الآخر توظيف المظاهرات التركية لتأجيج الصراع العلماني الإسلامي, عبر تصوير وترويج أن النظم الإسلامية أو ذات المرجعية الإسلامية هي نظم استبدادية وقمعية وفاشلة اقتصاديا وكل هدفها هو العمل علي أسلمة المجتمعات وتغيير هويتها, وذلك تسويق لنظرية خاطئة أن البديل للنظم الاستبدادية القمعية هو الخيار الإسلامي الفاشي, وتناسي هؤلاء أن التجربة الإسلامية التركية تمثل نموذجا ناجحا لحل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة, وأن استمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة ليس لشرعيته الدينية وإنما لشرعيته الاقتصادية في الإنجاز, والتي جعلت تركيا تحتل المرتبة الاقتصادية الثالثة عشرة عالميا. في المقابل تظل التجربة الإسلامية في دول الربيع العربي متعثرة حتي الآن لغياب الرؤية الشاملة لتطور وتقدم المجتمع وتلبية مطالب الثورات في الحرية والعدالة والتنمية الاقتصادية, وليس الشعارات الدينية, ولذلك فإن إدارة هذا الصراع العلماني الإسلامي بمنطق الإقصاء ونفي الآخر والكراهية المتبادلة يمثل العقبة الكئود أمام تقدم دول الربيع العربي, ولا بديل عن تقنين هذا الصراع عبر الآليات الديمقراطية عبر الانتخابات وتقديم برامج واقعية لكسب ثقة المواطن وهو ما نجحت فيه التجربة التركية.
ثالثا: يسعي الآخرون إلي جر تركيا السنية إلي الصراع السني الشيعي والذي بدأ في التصاعد مع دخول حزب الله وقبله إيران كطرف فاعل في الحرب الدائرة في سوريا ودخول أطراف سنية لبنانية وعربية إلي الحلبة, وأخذت الأزمة السورية تمتد توابعها إلي دول الجوار, خاصة لبنان وتركيا والعراق, ولذلك لم يكن غريبا أن تندلع بؤر الالتهاب, سواء الانفجارات في لبنان أو المظاهرات في تركيا أو التفجيرات في العراق, كمسعي لتوسيع دائرة المواجهة السنية الشيعية لخلق حالة من الفوضي, كمحاولة يائسة من جانب النظام السوري للاستمرار علي قيد الحياة, متجاهلا أن الشعوب حتما ستنتصر علي الطغيان, حتي وإن استخدم كل أدوات القمع والبطش لقتل وتشريد شعبه وتدمير أرضه وممتلكاته ومهما طال به الزمن واعتقد أنه بدأ يستعيد زمام الأمور.

إن خطورة توظيف التوابع الإقليمية للمظاهرات التركية عبر تأجيج الصراع العلماني الإسلامي والسني الشيعي هو محاولة للتغطية علي الصراع الحقيقي بين الثورات التي قامت من أجل الديمقراطية التي تحقق الحرية والكرامة والتقدم لمواطنيها, وما بين النظم الاستبدادية التي جلبت الفساد والقتل والقمع والتخلف لشعوبها, حتي وإن حاولت أطراف إقليمية, مثل إسرائيل, التدخل في تفاعلات المنطقة وتأجيج الصراعات المذهبية فيها لتحقيق مصالحها وأهدافها في استمرار انغماس الشعوب العربية في صراعاتها وعدم الاستقرار وإزالة أية تهديدات تنجم عنها, أو أطراف دولية تتدخل تحت مظلة الديمقراطية وحقوق الشعوب, بينما في الواقع تقف في موقع المتفرج علي المذابح اليومية في سوريا تحت مخاوف النظام البديل الإسلامي المتطرف.
الشرق الأوسط يمر الآن بمرحلة فارقة ومخاض كبير وإعادة تشكيله, وستتوقف ملامحه الجديدة علي من سيحسم الصراع الحقيقي ما بين الديمقراطية والاستبداد, وقدرة كل طرف علي توظيف الصراعات الفرعية ما بين الإسلامي والعلماني وما بين السني والشيعي, وهذا أبرز توابع المظاهرات التركية.