يوسف الديني

ربما كانت آخر ما تحتاج إليه laquo;تركياraquo;، النموذج الأكثر إلهاما لدى العرب الآن بمختلف تياراتهم، مثل هذه الاحتجاجات التي تعم البلاد وتنذر بتغيير للمعادلة السياسية الداخلية قسرا إذا ما فشل أردوغان في احتوائها أو اختيارا بعد أقل من عام حيث الانتخابات التي سيتم فيها استحضار ما يحدث الآن.

تفسير ما يحدث على أنه laquo;مؤامرةraquo; خارجية أو انتفاضة laquo;مخمورينraquo; كما يحاول المولعون بالتجربة التركية من الإسلاميين تقزيم ما يحدث، لا يقل فداحة عن خطأ أردوغان بوصفهم باللصوص والمخربين، مما ساهم في تأزيم الوضع على الرغم من المحاولة التصحيحية لتهدئة الأوضاع التي قام بها الرئيس عبد الله غل الذي laquo;حذرraquo; من التمادي في استخدام العنف ضد المتظاهرين.

laquo;مفاجأةraquo; تركيا جاءت صادمة للمراقبين، لا سيما من أنصار laquo;نمذجةraquo; السياسة في قوالب مسبقة، فمن يتصور أن تحدث احتجاجات عنيفة تنذر بثورة عارمة في دولة في أكثر أحوالها الاقتصادية انتعاشا، كما أن حضورها الخارجي حوّلها إلى أهم لاعب إقليمي في المنطقة؟ إلا أن كل ذلك لم يشفع عند الأتراك الناقمين والذين يرون في تجربة أردوغان أبعد من ثقلها السياسي والاقتصادي، فالرضا الداخلي عن أردوغان وحزبه يقل بكثير عن الانبهار بهما خارجيا.

ما حدث هو جزء من رد فعل لصراع طويل بين الإسلاميين وخصومهم من الحرس القديم، وهم مزيج من الأحزاب اليسارية والعلمانيين وفئات من الفنانين والرياضيين وأستاذة الجامعات وحتى قوميات كالأكراد وأنصار القومية التركية والذين يرون في تجربة أردوغان انحرافا عن الهوية التركية الكمالية، وبالتالي فإن هذا القلق الهوياتي انفجر مع حادثة laquo;قطع الأشجارraquo; للساحة الأكثر شهرة في إسطنبول، والذي تمثل لهم كمحاولة فجة للإيغال في تعويم معالم المدينة لصالح رأس المال المتحالف مع الإسلاميين.

وإذا كانت الديمقراطية المدعومة باقتصاد قوي ومتين تبرز جوانب مشرقة من التجربة السياسية، فإنها تخفي أيضا في طياتها مخاوف الأقلية التي لم تفز بالانتخابات ومطامعها التي تظل مطفأة حتى يتم إشعالها مجددا، وفي الحالة التركية لا يمكن الحديث عن أقلية، بل عن نصف المجتمع الذي لم يحالفه الفوز أمام قوة ومتانة laquo;حزب العدالةraquo; التنظيمية، وبالطبع يمكن إشعال ثورة (عادة ما تتحول الاحتجاجات المناطقية إلى ثورة بسبب رد فعل الحكومة المركزية) من خلال تحويل الاحتجاجات إلى مواجهة عنيفة في حال استجابت الشرطة لاستفزاز المتظاهرين وقامت بالرد عليهم، وهو ما حدث في تركيا حيث جرى استخدام القوة المفرطة، الذي يحول بفضل الإعلام الجديد وسهولة الحشد من قبل الأحزاب المعارضة المسألة إلى شأن عام وينقله من خانة laquo;رد الفعلraquo; إلى صراع سياسي وربما دموي.

هناك شكاوى لدى الأتراك رغم اعترافهم بنجاح التجربة الاقتصادية لحزب أردوغان بفرض الوصاية على المجتمع التركي وأسلمة تدريجية بطيئة لكل مفاصل الدولة، الأمر الذي يشكل تهديدا للهوية العلمانية المنكسرة، التي رغم فشلها في حصد الانتخابات فإن هذا الفشل المرتبط بقوة الأحزاب وقدرتها على إقناع الناخب لا يعني تحولا نوعيا في الهوية أو انزياحيا لصالح قناعات الأحزاب الإسلامية في القضايا الاجتماعية والحريات العامة، وهذا جزء من أزمة فهم صعود الإسلاميين عموما وعلاقة ذلك بممانعة اجتماعية في رؤيتهم للحريات ومسألة تطبيق الشريعة، وهي بالطبع عربيا أقل حدة من دولة كتركيا منقسمة بين جذورها الإسلامية وطابعها العلماني الأوروبي.

الوصاية على الحريات العامة التي لا تقبل الشخصية التركية المساس بها لا يمكن أن يجري تبريرها أو تمريرها عبر laquo;التفوق الاقتصاديraquo; لأسباب كثيرة، أبرزها في ما يخص تركيا أن نسب النمو العالية وازدياد الموارد وكل علامات النجاح المالي لا تنعكس بالضرورة على عموم الشعب وإنما تخص بالدرجة الأولى رجال الأعمال المتحالفين مع حزب العدالة والتنمية، كما هو الحال في معدلات النمو في تجارب كالهند والبرازيل... إلخ، ويمكن القول إن محاولات الأسلمة القسرية في تركيا هي الشكل المضاد لمحاولات العلمنة القسرية التي جربتها حكومات وأحزاب سياسية في العالم العربي وفشلت بسبب الممانعة المجتمعية بغض النظر عن الحالة الاقتصادية.

صورة أردوغان الداخلية في أكثر حالاتها حرجا، لكن ذلك أيضا لا يعني تحول الاحتجاجات إلى laquo;ثورةraquo; عارمة، فحتى الآن لا يوجد قتلى في صفوف المعارضة كما أن محاولات غل لتهدئة الموقف قد تساهم في تخفيف حدة الاحتقان.

المفاجأة laquo;التركيةraquo; تعزز أن قيم الديمقراطية لا تقبل التجزئة، فالفوز بنسبة 50% المعزز بنجاح اقتصادي باهر، لا يفيد شيئا في حال جرى تجاهل النصف الآخر، وهو درس لدول الربيع العربي التي تفقد نصفها الانتخابي الآن، بسبب فشلها الاقتصادي، ولم تنجح سوى في laquo;الوصايةraquo; بطرحها الشمولي الإقصائي، الذي يجعلها أسوأ مستخدم للعبة الديمقراطية المستوردة.