محجوب محمد صالح

منذ أن أطلق رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الحاكم في السودان مطلع هذا العام مبادرته لإدارة حوار وطني شامل يشارك فيه كل أهل السودان دون استثناء لأحد بغية الوصول إلى مشروع قومي يخرج السودان من أزمته الخانقة، منذ ذلك الوقت وتيرمومتر الحوار في حركة دائبة صعودا إلى قمة التفاؤل وهبوطا لقاع التشاؤم. ورغم أننا نبهنا كثيراً لضرورة عدم الإسراف في التفاؤل فإن المتفائلين ما فتئوا يبحثون عن أية بادرة تبرر تفاؤلهم دون أن يتدبروا في الواقع الذي يجافي تلك التبريرات.

??تفاءلوا يوم تم التوقيع على وثيقة أديس أبابا واعتبروها اختراقاً كبيراً ولم يتوقفوا ليتأملوا في حقيقة أن نص الوثيقة كان نصاً واحداً وشاهد الوثيقة كان شخصاً واحداً، لكن التوقيع تم في ورقتين منفصلتين؛ لأن الحكومة رفضت أن يوقع مندوبو لجنة السبعة -والحكومة عضو فيها- في ورقة واحدة مع الجبهة الثورية وقوى إعلان باريس؛ إذ إن الحكومة لا تعترف بشرعية أي منها، هذا يعني أن (الاختراق) الذي تصوره المتفائلون كان اختراقاً صورياً وشرعية الجبهة الثورية مرفوضة من الحكومة جملة وتفصيلا، وربما كان التفاؤل بالتوقيع مطلوبا لكي يعطي لجنة الوساطة الإفريقية (نصراً) تباهي به ولكنه قطعا لم يحدث اختراقاً في الاعتراف المتبادل الذي هو أساس أي حوار. ??وإذا كان الحزب الحاكم قد أبدى ارتياحاً لمحتوى الوثيقة التي وقعتها لجنة السبعة فإن تنفيذ الحكومة لبنودها كان بطيئاً ولم يكن كاملاً ولم يعكس التزاماً حقيقياً؛ إذ إن حبس المعارضين السياسين تواصل رغم إطلاق سراح البعض ومصادرة الصحف بقرارات إدارية لا تستند على حكم قضائي متواصل.

??أزمة (الحوار الشامل) ليست في الوعود أو إعلان النوايا أو الوصول إلى اتفاق والتوقيع عليه، أزمة الحوار الحقيقية هي أن ثمة مفهومين متناقضين لمعنى (الحوار الشامل) وأهدافه وأبعاده: مفهوم الحكومة ومفهوم المعارضة وهما مفهومان على طرفي نقيض يسيران في خطين متوازيين ولن يلتقيا أبداً ما لم يعدل أحد الخطين مساره بانحناءة محسوبة وبسبب تغيير في ميزان القوى وتوفر الإرادة السياسية. ??الحكومة تريد حواراً يؤدي إلى إلحاق المعارضين أو بعضهم بسفينة الحكومة التي تفسح لهم مقعداً ثانوياً في كابينة القيادة وليتمتعوا بإحساس (المشاركة) دون مشاركة، والمعارضة تريده حواراً يحدث تغييراً شاملاً يعيد تأسيس الدولة على أسس جديدة أو هكذا تقول، ولا غرابة والحال هكذا أن يتحول الحوار إلى (حوار طرشان).

??رئيس الجمهورية ومن موقعه كرئيس للحزب الحاكم طرح هذه المبادرة بمحض اختياره، وهو الوحيد الذي يمكن أن يشرح تفاصيل مبادرته وقد فعل ذلك بطريقة واضحة في خطابه أمام مؤتمر حزبه في ولاية الخرطوم الأسبوع الماضي –فالمبادرة تهدف ببساطة- إلى أن يلتحق المعارضون بما فيهم حملة السلاح -بعد إلقاء سلاحهم- بسفينة الإنقاذ مقابل بضعة مقاعد في حكومة جديدة مهمتها الإشراف على الانتخابات التي ستجرى بعد سته شهور. ??ولكي يصلوا إلى تلك المقاعد الحكومية يتعين على المعارضين -بحسب (خريطة الطريق) الواردة في ذلك الخطاب– أن يدركوا أن: ??- الانتخابات قائمة في موعدها ولا مجال للتأجيل.

&??- الحكومة لن تسمح بالنشاط السياسي لمن يحمل السلاح. ??- الحكومة لن تقبل التحالف السياسي للأحزاب مع حملة السلاح داعيا رئيس حزب الأمة للتبرؤ من (اتفاق باريس) لأن من يتحالف مع من يسعى لإسقاط النظام بالقوة يكون شريكا معه في الجرم. ??- مفاوضات الحكومة مع ممثلي الولايتين –النيل الأزرق وجنوب كردفان- لن تبحث سوى بند واحد وهو (إعادة الدمج وتسريح المقاتلين) وبقايا القضايا انتهت بنهاية اتفاقية نيفاشا. ??- لا مجال للدمج بين قضايا المنطقتين وقضايا دارفور ولا مجال لقيام منبر واحد للتفاوض ودارفور لا تبحث خارج منبر الدوحة، وقد اكتملت مفاوضاتها بتوقيع وثيقة الدوحة، والمتاح لحركات دارفور هو فقط التوقيع على تلك الوثيقة. هذه هي أبعاد الحوار وأهدافه ومراميه كما يراها الحزب الحاكم. ??قضية الحوار لم تتراجع إلى المربع الأول لأنها أصلا لم تغادر ذلك المربع حسب رؤية الحزب الذي طرح المبادرة بهذه الأبعاد.. محاولات أحزاب المعارضة التي انضمت إلى لجنة السبعة ومحاولات لجنة الوساطة الإفريقية كانت تهدف لتحريك المبادرة من ذلك المربع إلى مربع جديد، ولكن هذا الخطاب الواضح يؤكد على أن المبادرة صممت على أساس بقائها في هذا المربع دون أن تتخطاه، وأنه يتوجب على كافة الأطراف التعامل معها على هذا الأساس قبولا أو رفضاً، وستظل المبادرة واقفة في المربع الأول إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا! ?? ??•