&&نبيل شرف الدين&
تبدو تونس-البلد الصغير وسط "ديناصورات جغرافية"- تمتلك خصوصية حضارية جعلتها مختلفًة على نحو ما، فمنها انطلقت ما تسمى ثورات "الربيع العربي"، وهاهي بانتخاباتها الأخيرة تنهي بنجاح ليس الاستحقاق الانتخابي الثاني بعد إزالة نظام زين العابدين بن علي فحسب، لكنها تعبر بسلام المرحلة الانتقالية التي عاشتها البلاد منذ 14 يناير 2011، والتي أُجريت خلالها انتخابات 2011 وتوافقت على دستور جديد بعد إلغاء دستور 1959، لتكلل بانتخابات حققت خلالها القوى المدنية انتصارًا على الإخوان الذين أقروا بالهزيمة، لتقدم تونس بذلك نموذجا سياسيًا تفتقر إليه دول المنطقة المضطربة.
وخلال الأعوام الثلاثة الماضية التي حكمت فيها "حركة النهضة" وهي النسخة التونسية للإخوان، عاشت البلاد أوضاعًا متدنية، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، فارتفع معدلات الفقر والبطالة وانهارت العملة وتفشى الانفلات الأمني وبرزت التهديدات الإرهابية، واحتل التونسيون النسبة الأولى بعدد "الدواعش" بسورية والعراق، وانهارت صورة البلاد التي كانت ـ حتى وقت قريب ـ نموذجاً للتنوير ومنظومة الحريات التي تتصدرها حرية التعبير، واحترام وضعية المرأة.
فشل إخوان مصر
خلال تلك الفترة حاصرت التونسيين أسئلة صعبة، تصدرها كيفية استعادة مكتسباتهم الحضارية بعدما فشل "إخوان النهضة" في إدارة البلاد، وفرضوا القيود على الحريات العامة، لكن الفشل الذريع للحركة الأم "إخوان مصر" وإطاحتهم من القصور للسجون، كانت درسًا استوعبه "إخوان تونس" المختلفين سياسيًا عن نظرائهم المصريين، فمعظم قيادات "إخوان تونس" عاشت في أوروبا واكتسبت خبرات سياسية، وخاضت تجارب احترام حق الآخر في الوجود، والتعبير عن الرأي، بينما تربى إخوان مصر في السجون، وانحصرت خبرات قادتهم بالتجارة. وحينما تدحرجت السلطة بساحتهم تعمدوا التكويش والتغول على مؤسسات "الدولة العريقة"، وتعاملوا بمنطق "تاجر البندقية" الجشع الذي يسعى للاستحواذ المطلق على المشهد، ويرفض السماح للآخرين بمنافسته، فكانت نهايتهم المأساوية، وإذا خسر "إخوان تونس" الانتخابات البرلمانية، إلا أنهم حافظوا على وجودهم بالساحة، فقد كسب إخوان مصر الانتخابات البرلمانية والرئاسية لكنهم خسروا الشعب والسلطة وكتبوا نهاية قوى "الإسلام السياسي" بالمنطقة.
حركات "الإسلام السياسي"
كما يرى مراقبون ومحللون سياسيون خسارة "إخوان تونس" بالانتخابات، والنهاية الدرامية للتنظيم الأم في مصر مؤشرات على انحسار شعبية تيار "الإسلام السياسي" بالمنطقة، ويتوقعون خسارتهم للانتخابات البرلمانية المرتقبة بمصر، لكن حركة النهضة "إخوان تونس" رغم خسارتها الانتخابات البرلمانية لكن بوسعها المشاركة بالعملية السياسية، خلافا لإخوان مصر الذين انزلقوا للعنف ومحاولات إشاعة الفوضى بالبلاد، الأمر الذي دفع السلطات لاعتبار الجماعة "منظمة إرهابية" وصادرت أموالهم واتخذت سلسلة إجراءات عقابية واحترازية دفعتهم خارج الساحة السياسية لأجل غير مسمى، بسبب فشلهم في التحرك من "الشعارات" إلى "التطبيق"، ومن "فقه الدعوة" إلى "فقه الدولة"، ومن "فقه الاختلاف" إلى "فقه الائتلاف"، هذا فضلاً عن ممارساتهم المعادية للحريات العامة والشخصية، وخطابهم المزدوج بين المعلن والمسكوت عنه.
البجبوج و"بقعة الضوء"
وصدقت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حينما اعتبرت تونس "بقعة الضوء" الوحيدة بالمنطقة، فرغم أنها كانت منطلقًا لموجة الثورات، فقد ظلت الدولة الوحيدة التي تمضي بخطى راسخة على طريق تحقيق الديمقراطية ودولة القانون، وتجلى التقدم الذي تحرزه تونس عبر السلاسة التي اتسم بها مسار الانتخابات البرلمانية والمشاركة الشعبية الواسعة فيها.
ويرى محللون سياسيون مصريون أن خسارة إخوان تونس تعتبر "مؤشرًا مبكرًا" على أن أنصار "الإسلام السياسي" لن يحصلوا على مقاعد تُذكر في الانتخابات البرلمانية المرتقبة بمصر، ويقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية بالقاهرة سعد الدين إبراهيم إن خسارة حركة النهضة الإخوانية للانتخابات البرلمانية التونسية كانت متوقعة، نظرًا للحذر بالتعامل مع حالة الحركات الإسلامية مستقبلاً، وبعد صراعات دامية بمصر وليبيا واليمن وغيرها، وأحداث خطيرة تركت هواجس كثيرة بوجدان الشعوب من شأنها التأثير على حضور الإسلام السياسي بتنوع مشاربه بالمشهد السياسي لفترة طويلة لا تبدو واضحة بالمدى المنظور.
التقديرات ذاتها تبناها جيل كيبيل الباحث البارز في "معهد الدراسات السياسية" بباريس، بقوله خلال ندوة بعنوان "آفاق الثورات العربية"، بمكتبة الإسكندرية: "لسنا متفقين على مسمى ثورات الربيع العربي، لكن يمكن تسميتها الأحداث التي قامت بزعزعة البلاد سواء من وجهة نظر العرب أو غيرهم.
ومضى موضحًا أن نتائج الانتخابات البرلمانية التونسية ستؤثر محالة على الانتخابات الرئاسية التي ستجري في دورة أولى يوم 23 نوفمبر الجاري، ذلك أن من تداعياتها إعلان رئيس "تيار المحبة" الهاشمي الحامدي انسحابه من سباق الرئاسة، ليبرز بذلك استحواذ حزب "نداء تونس" على أغلبية مقاعد البرلمان، وإمكانية تشكيلها الحكومة، لكنه ربما يقلص حظ قائد السبسي بالمنافسة الرئاسة وذلك وفقا للدستور التونسي.
نقطة واحدة تفصل بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القادم من خلفية عسكرية ومخابراتية، والسياسي التونسي المخضرم قائد السبسي الذي كان اسماً مجهولاً لأجيال الشباب التونسي الجديدة، لكنه بالنسبة للعملية السياسية والعمل العام والنقابي والحزبي، فقد كان الباجي قائد السبسي، أو "سي الباجي" أو(البجبوج) كما يسميه أنصاره وزيرًا بارزًا إبان عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، وشخصية تحظى بتقدير سياسي كبير، وخلال لحظة عاصفة بتاريخ تونس، وتحديدًا يوم 27 فبراير 2011، كانت الدولة تواجه خطر الفوضى، فأعلن الرئيس المؤقت آنذاك، فؤاد المبزع، تعيينه رئيسًا للحكومة خلفًا لمحمد الغنوشي، آخر رئيس وزراء ابن علي، والذي أطاحه "اعتصام القصبة الثاني".
ثمة محطات سياسية مفصلية بمسيرة (البجبوج) الحافلة، والتي بدأت بأبرز حقائب الدولة، وصولاً إلى رئاسة أول برلمان بعدما اشتهر بـ"التغيير" عام 1987 لكنه انسحب بعدها من الحياة السياسية تمامًا ولم يعد سوى أواخر شهر فيراير 2011، وأطلق مبادرته لتجميع الحركة الديمقراطية في 26 يناير 2012، أما في يونيو 2012 أسّس حزبه الجديد "نداء تونس" وبشخصيته الكاريزماتية التي تذكّر بعض التونسيين بالحبيب بورقيبة، نجح الباجي، خريج "جامعة السوربون" الفرنسية والذي التحق بأول ديوان لرئيس حكومة تونس بورقيبة بعد الاستقلال عام 1955 حتى قبل إعلان الجمهورية، بأن يجعل حزبه الحزب الأول بكافة استطلاعات الرأي قبل إجراء الانتخابات البرلمانية التي اكتسحها حزبه، ويسود اتفاق أن السبسي يحظى بسمات "الزعماء الوطنيين" والرموز السياسيين رغم تقدم عمره.
تجدر الإشارة لاضطرار إخوان تونس "حركة النهضة" للتخلي عن السلطة مستهل العام الحالي، عقب أزمة سياسية كادت تعصف بالبلاد، نتيجة اغتيال اثنين من قادة المعارضة المدنية العام الماضي وهما: شكري بلعيد، ومحمد البراهمي. وتولت زمام الأمور حكومة غير حزبية بموجب "خريطة طريق" توافقت عليها حينذاك كافة أطياف المجتمع المدني لإنقاذ البلاد من العنف والفوضى.
"تونس المُلهمة"
وإذا كانت "تونس الملهمة" كما وصفها الرئيس الأميركي باراك أوباما لم تتوقف عن صناعة المفاجآت فقد شهدت انتخاباتها البرلمانية نتائج صادمة لتحالف "أحزاب الترويكا" خلف "النهضة" فلم يحصل "حزب المؤتمر" بزعامة الرئيس الحالي المرزوقي، سوى على 4 مقاعد، أما "حزب التكتل" بقيادة رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر فلم يفز سوى بمقعد وحيد، ليستجيب بذلك شعب تونس لنداء "تجربة مصر" ويُسقط "إخوان النهضة"، لتظل القاهرة "منّصة حضارية"، فقد حسمًت مستقبل "الإخوان" وأنصارهم الذين لجؤوا لعمليات العنف والاغتيالات والمواجهات الدامية وتعميق الاستقطاب السياسي والاجتماعي، بينما يكتنف الغموض مستقبل الأحزاب السياسية القديمة والجديدة، فعقب انهيار نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، تشرذمت تلك الأحزاب، وازدهرت "لعبة الفزاعات" المتأسلمة لدرجة يتوقع معها المراقبون افتضاح تهافتها خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وخلافًا لتونس التي بادرت قواها السياسية متسلحة بتفاهمات فكرية لاستكمال تأسيس ديمقراطية مُبشرة ووضع قواعد الدولة المدنية فإن القوى الوطنية المصرية بعد إطاحة نظام مبارك، ونتيجة للشروخ الخطيرة السائدة في صفوفها بين القوى الليبرالية واليسارية والقومية من جهة، والإسلام السياسي من جهة أخرى، فإنها بدلاً من توحيد جهودها انشغلت بالصراعات فيما بينها، وصولاً للتواطؤ مع رموز "الحزب الوطني" المنحل لتُعيد إنتاج المشهد السياسي القديم البائس، الذي كان سببًا جوهريًا لسلسلة التحولات والمواجهات الدامية التي ترتبت عليها، ومازالت مستمرة بعمليات العنف التي تمارسها جماعات إرهابية محسوبة على الإخوان لدرجة اعتبارها "الجناح العسكري" للجماعة.
وبالعودة لجيل كيبيل، الباحث الفرنسي المتخصص بشؤون حركات "الإسلام السياسي" الذي أكد أنّ الأزمة الكبرى بمصر بلغت ذروتها حينما ارتكب الإخوان أخطاء سياسية فادحة بسبب استعلائهم وغرورهم السياسي الذي بلور مشاعر انتابت الشعب بأن باستطاعتهم الهيمنة على المنطقة كلها عن طريق إنشاء نظام شمولي يقوده تنظيمهم الدولي، وإثر فوز الرئيس المعزول محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية المصرية في يونيو 2012 لم يكن الإخوان فقط الذين صوتوا لصالحه، لكن كان هناك كثيرون ممن يرفضون فوز أحمد شفيق آخر رئيس وزراء بعهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وإعادة إنتاج النظام السابق مجددًا لكن بعدها تقلصت قاعدة مرسي وجماعته شعبيًا نتيجة محاولات الإخوان الهيمنة والتغول على كافة مؤسسات الدولة خاصة السيادية، مما أدى لتآكل شرعيتهم بشكل سريع، وانهيارهم خلال عام وحيد تحت ضغوط شعبية واسعة النطاق ثارت ضد فشلهم واستبدادهم وتخبطهم، فخرجت الملايين في 30 يونيو، وكما حدث في 25 يناير انحاز الجيش للحراك الشعبي وليس للرئيس، فكانت الثورة بمثابة
&
التعليقات