&محمد آل الشيخ
السبب الذي أسقط قناة الجزيرة -في رأيي- هو سبب نجاحها إعلامياً عند ما تأسست.
قناة الجزيرة انطلقت في عقد التسعينات من القرن المنصرم، وكانت الساحة الإعلامية العربية حينها تغط في سبات عميق. ولم يتنبه الإعلاميون (الرسميون) العرب إلى أن تقنية البث التلفزيوني من خلال الأقمار الصناعية، ألغت عملياً قدرتهم على التحكم في وسائل الإعلام؛ فالبث التلفزيوني الجديد أصبح كالطيور المهاجرة لا تحتاج لتأشيرة دخول ولا يعترضها مأمورو الجمارك. فما كان يتحكّم فيه الرقيب الإعلامي الحكومي بالأمس لا يستطيع أن يتحكّم فيه اليوم. والمعلومة المدعومة بالصورة التلفزيونية، صادقة كانت أو كاذبة، مفبركة أو حقيقية، معك أو ضدك، أصبحت تهطل من السماء كأمطار السحاب دون أن تستأذن من أحد. وهذا يعني أن تقنية الاتصالات الفضائية الجديدة بمعناها الواسع والمتعدد، لم تُقرِّب البعيد وتلغي الحدود بين سكان هذا الكوكب فحسب، وإنما وارت التراب حقبة إعلامية سابقة، ودشنت حقبة إعلامية جديدة؛ تختلف اختلافاً كاملاً عن حقبة ما قبل تقنية (الأقمار الصناعية) التي يعج بها الفضاء اليوم.
قناة الجزيرة الفضائية كانت أول من (واكب) هذه الحقبة عربياً في المجال الإخباري والسياسي، وكانت مواكبة مهنية محترفة إلى حد بعيد وبالذات إذا ما قُورنت بالتلفزيونات الحكومية المحلية ذات الخطاب الدعائي الجامد والممل والموجّه بوضوح؛ فنالت بذلك قصب السبق في استثمار هذه التقنية واستغلالها المبكر لها؛ خاصة وأن بقية العرب لم يتنبهوا مبكراً بأن مرحلة إعلامية قد بدأت وأن مواكبتها فضلاً عن التعامل معها -شئت أم أبيت- أصبحت حتماً وليس خياراً، فإما أن تلتحق بهذا القطار السريع والحديث وتكون أحد ركابه، ومعه أينما حل أو ارتحل، وإلا ستبقى حيث أنت تعيش مُهدداً في غابة موحشة لم يعد يلفّها الصمت والظلام كما كانت طوال القرون السابقة!
ولأن العرب يتباهون بالتريّث، ويُصرون على (الثبات) وجدت قناة الجزيرة نفسها وبلا منافسين، تُسيطر على إعلام جديد، وتخطب في ميادين تغصُّ بالجموع البشرية بـ(مفردها) دون أن يكون ثمة خطيب آخر، فكان من الطبيعي جداً أن تلتفت إليها هذه الجموع، وأن تُصغي إلى ما تقول؛ وهذا في رأيي سر تميّز وقوة و(تأثير) قناة الجزيرة باختصار.
الآن اختلف الوضع وتبدل مشهد السماء؛ ميزة السبق، والانفراد بالجموع، والتميز بالمهنية، ضَعُفَت ثم تلاشت تماماً على ما يبدو.. فالسماء الآن هي أشبه ما تكون بركن الخطباء الشهير في حديقة (هايد بارك) في لندن؛ الناس فيه يتجولون وتسمع لهذا الخطيب تارة، ثم يذهبون ليسمعون ما يقوله الخطيب الآخر المختلف عنه وربما معه تارة أخرى، بمعنى آخر: المضمار الذي يجري فيه حصان قناة الجزيرة والذي كان مُروّضا جيدا، ويسبق فيه الجياد الهزيلة أو (الكديش)، أو غير المروضة جيداً دخلته خيولٌ أخرى أصيلة وقوية؛ تولاها و(عسفها) وطوّعها لتفوز في السباق مروضون محترفون لا هواة.
صحيح أن فشل ما يُسمى (الربيع العربي) الذي كان إحدى رهاناتها، وإصرارها على (إنقاذه) إعلامياً، وبطريقة دعائية فجّة، وغير مهنية، بل ومُضحكة أحياناً، ساهم في هذا السقوط، أو إن شئت (التراجع)، وأفقدها قَدراً كبيراً من صدقيتها المهنية وبريقها الذي ظهرت به في الماضي وعند التأسيس؛ إلا أن السبب الرئيس كان فقدانها لخاصية التميز والانفراد بالساحة الإعلامية (الجديدة) إخبارياً وسياسياً.
يقولون: ليس الإنجاز أن تصل إلى القمة فحسب، وإنما الإنجاز الحقيقي، والأصعب، أن تصل إليها، ثم تبقى منفرداً فيها بلا منافسين.
إلى اللقاء
&
التعليقات