يوسف عوض العازمي

عندما أعيدت الانتخابات التونسية وتواجه فيها المرزوقي والسبسي «راس براس»، رُفِع الستار عن الحقيقة، وتبين أن تلك الانتخابات في الحقيقة تمثل صراعاً شعبوياً بين تونس ما قبل الثورة، أو بالأصح تونس بورقيبة، أو تونس الجديدة، وبين تونس المحافظة، تونس المتدثرة بالرداء الإسلامي.


مثلما توقع كثيرون، وكما يقول المنطق، فاز المرشح محمد الباجي قايد السبسي برئاسة جمهورية تونس وسيقود السبسي تونس بعد تبوئها قيادة ما سمي بـ"الربيع العربي".


وبالنظر إلى ما جرى في الانتخابات لا شك أن فوز السبسي كان متوقعاً، ولو كانت ألاعيب السياسة وتحالفاتها بعيدة لحسمها من الجولة الأولى بكل سهولة وأريحية، لأن كل العوامل المؤدية إلى الفوز كانت حاضرة، ولا تهتم بنتيجة الرئيس المؤقت والمرشح الآخر "المنصف المرزوقي" فهو نفسه، قبل غيره، يعلم أنها لا تمثل النسبة الحقيقية لحظوظه الانتخابية.
ما الذي حدث ورفع أسهم المرزوقي الانتخابية وعطل فوز سهل للسبسي في الجولة الأولى؟
هذا هو سؤال الموسم الانتخابي في الخضراء تونس، وإجابته تحدد جزءاً واضحاً من المسيرة السياسية لتونس الحاضر والمستقبل القريب، فالذي حصل أن كثرة مرشحي الرئاسة أغلقت أبواباً تصويتية مضمونة للسبسي، فعدد المرشحين الذي يتجاوز العشرة ليس سهلاً في انتخابات رئاسية، وهنا جاء تشتت الأصوات الواضح، إضافة إلى الأهم وهو عدم ترشح أي من كوادر حركة النهضة الإسلامية للمقعد الرئاسي في حركة تتجلى بها الحكمة والنظرة السياسية البعيدة، ونظراً لامتلاكها عدداً تصويتياً مؤثراً، فقد حاول الجميع استمالتها والتودد إليها بطرق عدة، لكنها أعلنت أنها ستترك الرأي في التصويت لكوادرها بحرية، وسيكون الحياد عنوانها الرئيسي.
من خلال قراءة سريعة لهذا الموقف يتبين استيعاب الحركة لمجريات ما حدث في العالم العربي واستفادتها من الأحداث في مصر بالذات، وغيرها في العالم العربي، إذ تبين أن الحاكم الحقيقي هو الجيش، لا مَن يأتي بصناديق اقتراع تسوق لحقائق غير موجودة على أرض الواقع.


وتبين هذا على مرأى الجميع في مصر، عندما انتصر الجيش لمبادئه السياسية، وأصبح بعدها وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي رئيساً لمصر بعد خوضه الانتخابات الرئاسية التي جرت بلا منافسة حقيقية، وكانت تختلف تماماً عن ضراوة التنافس في الانتخابات التي فاز فيها مرسي.


السيسي فاز لأنه أصبح تقريباً الشخص الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار الأمني في مصر، والناس انتخبوا السيسي الضابط العسكري أكثر من انتخابهم مرشحاً رئاسياً! لأن الأمن يأتي في الأهمية قبل الخبز، واثنتان لا يشعر بهما الإنسان إلا بعد فقدهما، أحدهما "الأمان في الأوطان"، وهذا السبب الرئيسي للنسبة التسعينية بنتيجة السيسي، وواضح أن الاستقرار يرجع، وإن ببطء، لأرض الكنانة، لاسيما بعد تحييد الدور القطري المؤيد للإخوان "كما يردد كثير من المصريين"!
أعود إلى تونس وانتخاباتها الرئاسية، إذ اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن كثيراً من أصوات النهضة اتجهت إلى المرزوقي الذي بسبب هذا الدعم الواضح (نفت النهضة دعمها للمرزوقي رغم وضوحه، غير أنه لم يكن معلناً) رأى فيه كل مناهض للسبسي أمل الفوز! وبطريقة لا يتوقعها المرزوقي حتى في أجمل أحلامه،
وعندما أعيدت الانتخابات وكانت «رأس برأس»، المرزوقي والسبسي، وجهاً لوجه رفع الستار عن الحقيقة، وتبين أن الانتخابات هي في الحقيقة السياسية والثقافية تمثل صراعاً شعبوياً بين تونس قبل الثورة، أو بالأصح تونس بورقيبة، أو تونس الجديدة، تونس المحافظة، تونس المتدثرة بالرداء الإسلامي.


والسبسي هو وزير خارجية ووزير داخلية سابق في حقبة الحبيب بورقيبة، والمرزوقي هو داعية لحقوق الإنسان، وهو أثبت من خلال رئاسته المؤقتة لتونس نظافة يده والتزامه الحقيقي بالديمقراطية وتقديم نفسه وجهاً لثورة الياسمين التونسية، التي بدأت منذ أن حرق البوعزيزي نفسه.


أي أن الانتخابات كانت بين ثقافتين، ثقافة علمانية ليبرالية يمثلها أغلب مؤيدي السبسي، وثقافة محافظة يمثلها أغلب مؤيدي المرزوقي، وكما أسلفت، فقد ساعد الاصطفاف المحافظ على تقوية موقف المرزوقي، والعكس صحيح بالنسبة إلى السبسي، وحركة النهضة ربحت كثيراً من حيادها "المعلن" في الانتخابات، إذ رسخت وجودها كقوة سياسية لها احترامها وقدرها الانتخابي وتواجدها المقدر في الدولة.


وضمنت على الأقل عدم تكرار النموذج المشابه واستفادت مما حصل في مصر، وأعادت ترتيب أوراقها بحرفية سياسية واقعية، خاصة بعد النتيجة المؤلمة لها في الانتخابات البرلمانية.


تونس الآن تتجه إلى عصر بورقيبة، بأدوات حديثة وتطور فكري وسياسي يواكب العصر، ونستطيع القول إن ما حدث في تونس هو تصحيح شعبوي للربيع العربي وإسدال، ولو مؤقتاً، لستارة الإخوان المسلمين، الذين خسروا الجولة، ولم يخسروا الوجود والتأثير.


في بداية سنة 2014 تبوأ عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر وفي نهايتها جلس السبسي على مقعد الرئاسة التونسية، هذه سنة السيسي... والسبسي، وأسأل الله أن يوفقهما لما فيه الخير لشعبيهما.
&