ياسر الزعاترة

قبل ثلاثة أيام من الانتخابات البلدية المقرر إجراؤها غدا الأحد، فقد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان صوته. وكان ذلك طبيعيا بعد أن أمضى الأسابيع الأخيرة وهو يجوب البلاد طولا وعرضا ويخطب لساعات في مهرجانات انتخابية حاشدة لم تشهد لها تركيا مثيلا منذ عقود.


حدث ذلك رغم أن الهجمات التي تُشن عليه كانت من الشراسة بحيث يمكنها الإطاحة بأكبر زعيم سياسي، لكن أردوغان بقي صامدا يقاتل بعزيمة فريدة، وكان بوسعه رغم ذلك أن يستقطب الملايين في مهرجانات حاشدة.


لا سبب لذلك غير ما حققه من إنجازات غير مسبوقة في تاريخ تركيا، بخاصة من الناحية الاقتصادية، ذلك أن نكايات الصحف وتسريبات تويتر ويوتيوب لا تستقطب في نهاية المطاف غير قطاع معين من الناس، بينما يبقى القطاع الأكبر أسير ما يراه بعينيه، ويلمسه بيديه ويحسه بقلبه، ولعل ذلك هو ما يفسر الفارق بين مواقف النخب، وكثير من أبناء الطبقة المتوسطة العليا في المدن، وبين الآخرين في الأرياف والمناطق الفقيرة. وقد رأينا هذا الفرق واضحا في الحالة المصرية، وحيث كانت حظوظ مرسي بين أبناء الطبقات الفقيرة أفضل بكثير منها في المدن الكبيرة.


لا شيء يمكن أن يدفع تلك القطاعات من الأتراك الذين لم يروا خدمات ولا وضعا اقتصاديا جيدا على هذا النحو منذ عقود، لا شيء يدفعهم إلى تصديق نكايات صغيرة تأتي من هنا وهناك، وربما أن أكثرهم لم يستمع إلى تلك التسريبات التي قيل إنها تدين الرجل، فمن صنع مثل هذه المعجزة الاقتصادية لن يجري شطبه من الحياة السياسية بدعوى أنه تحدث مع ابنه عن إخفاء 5 مليون دولار لا تساوي توقيعا بتحويل شارع من سكني إلى تجاري بلغة البلديات، فضلا عن أن يكون التسريب نتاج عملية ldquo;دوبلاجrdquo;.


للهجوم على أردوغان أسباب كثيرة، لاسيما أنه يأتي من أنواع عديدة من البشر، إن كانوا من الداخل أم من الخارج، فهنا في معسكر الحرب عليه التقى عرب وعجم وصهاينة، وعين الجميع على ما أصبح أولوية في عقل كثيرين ممثلا فيما يسمى ldquo;الإسلام السياسيrdquo; الذي يُحسب الرجل عليه رغم أنه أعلن ويعلن أن يقود حزبا علمانيا وليس إسلاميا.


لكن الهجوم الأكثر شراسة عليه كان ذلك الذي جاء من الداخل؛ من مؤسستي القضاء والشرطة اللتين يتمتع فيهما رجل الدين الصوفي ldquo;فتح الله غولنrdquo; بنفوذ هائل، وهما من وقفا خلف تهم الفساد، والتسريبات، وآخرها تسريب تسجيل حساس يمسُّ الأمن القومي، وهي معركة كان كثيرون يعتقدون أن أردوغان سيخسرها نظرا لقوة نفوذ تلك الجماعة التي شكلت دولة داخل الدولة، ولها سجل سابق في التعاون معه، لكنها تجاوزت كل الحدود وأرادت وضعه تحت إبطها، فانتفض ضدها وبدأت الحرب.


والحال أن الجانب الأقل أهمية في معركة أرودغان مع غولن هو ذلك المتمثل في نية الجماعة منح أصواتها، ودفع مؤيديها إلى التصويت لصالح أحزاب أخرى، ذلك أن الناس لن يستجيبوا لها تماما، هم الذين يميزون بين أردوغان وخصومه، وعموما هي خسارة لن تتجاوز في أحسن الأحوال 5 في المئة من أصوات الناخبين، لكن عملية التشويه التي قادتها الجماعة ولم تنته فصولا بعد هي الأخطر.


التآمر العربي حضر أيضا، وهو تآمر متعدد الأشكال، وكان موقف أردوغان من انقلاب مصر سبب كبير، كما حضر الهجوم الغربي المدعوم صهيونيا أيضا، ولعل ذلك هو ما دفع أردوغان إلى التهدئة مع الكيان الصهيوني مؤخرا، وقبول تعويضات سفينة مرمرة، فيما يعلم الجميع أن لغولن علاقته مع المحافظين الجدد، هو الذي كان اعتراضه على ردة فعل أردوغان على حادثة مرمرة، بداية الفراق بينهما.


على أن الملف السوري يبقى الأكثر أهمية في المشهد، ذلك أن البعد الطائفي يبق حاضرا بوجود نسبة من العلويين في تركيا تصل بحسب البعض حدود 20%، وهؤلاء من دون شك يتعاطفون مع بشار الأسد، ويدخل التصعيد الأخير بين البلدين كتحدٍ آخر لأردوغان، بخاصة أن إيران لن تقبل ذلك رغم علاقتها الجيدة معه، لكن ما جرى قد يكون مقدمة لتفاهم بين الطرفين يفضي إلى حل سياسي يوقف نزيفا أصابهما بقوة، وكلفهما أكثر من أي طرف آخر.


يبقى أن يوم غد سيكون بالغ الأهمية لأردوغان، وهو يعول على أن يحصل في الانتخابات على نسبة أعلى من المرة الماضية (كانت 38%)، وإذا حدث ذلك كما هو مرجح، فسيكون قد تخطى محطة مهمة في سعيه إلى تثبيت وضعه، ووضع حزبه، لكن الأمر قد يحتاج منه إلى مزيد تدقيق في سلوكه السياسي، بعيدا عن إثارة معارك لا داعي لها مثل قضية ldquo;تويترrdquo; وrdquo;يوتيوبrdquo; التي يصعب الدفاع عنها، وجلبت له متاعب كان في غنىً عنها.