محمد كريشان

هل يمكن أن ينجو قتلة الأطفال من الكابوس المرعب الذي سيظل يلاحقهم و يقض مضاجعهم لسنوات طويلة فضلا عن جرهم يوما إلى محاكمات دولية؟!!
ليس المقصود هنا بكابوس الضمير الإنساني فقد اتضح الآن جليا أن هؤلاء الجنود الإسرائيليين، كما قيادتهم السياسية والعسكرية، منعدمو الضمير تماما بدليل افتخار بعضهم علنا بقتل عديد الاطفال و بدليل قدوم بعضهم من حمَـلة الجنسية المزدوجة من بقاع مختلفة من العالم لممارسة هذه «الهواية». ليس المقصود كذلك ضمير المجتمع الذي يساندهم في غالبيته الساحقة ووقف البعض منه على ربوة يتابع قصف غزة منتشيا، ورقص بعضه الآخر في الشوارع. لم يتحرك أي منهم ليقول لحكومته «لا» مع أنهم «طليعة العالم الحر في وجه التطرف» على رأي وزير الخارجية ليبرمان ومع أنهم «واحة للديمقراطية في وسط محيط من الاستبداد والتخلف» كما يحلو لهم دائما الزعم.


المقصود هنا تحديدا الكابوس الذي سيسببه هؤلاء الأطفال عندما يكبرون، ومعهم تكون كبرت ذكريات ما حصل هذه الأسابيع في غزة، معطوفا عليه مرارات الحصار وكل ما حكاه الأباء والأجداد. لقد أسقط الإسرائيليون بنيران مدفعياتهم وقنابل طائراتهم ما قاله رئيس وزرائهم الأول ديفيد بن غريون من أن «الآباء يموتون والأطفال ينسون». تكفل الإسرائيليون بــ«صيانة» ذاكرة الفلسطينيين عبر التجديد الدائم للعدوان عليهم. لن يحق لهم بعد اليوم خاصة التذمر من مناهج التعليم الفلسطينية التي لم تتغير. إنهم يتجاهلون أن ما يفعلونه هم بأيديهم هو الذي يظهر حقيقتهم عارية أمام أطفال فلسطين و ليس بضعة أوراق في كتب التاريخ.


بالكاد تميزها وسط كلام عدواني متغطرس، يرمي المسؤولون الإسرائليون عبارات «الأسف» عن سقوط ضحايا مدنيين في غزة لكنه أسف كاذب ومنافق بل هو أقرب للتضليل وتنميق الكلام منه لأي شيء آخر. في بداية العدوان الأخير على غزة تحدث الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس باستحياء عن أن سقوط هذا العدد من القتلى المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ «يطرح إشكالا أخلاقيا عند الإسرائليين» لكنه سرعان ما بلع لسانه هو والأغلبية الساحقة من قومه.


إلقاء إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، وبعض الصهاينة العرب، باللائمة على الضحية لأنها برأيهم هي السبب فيما أصابها ليس جديدا فقد سبق لرئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة غولدا مائير أن قالت ذات مرة إنها لن تغفر أبدا للفلسطينيين أنهم أرغموا الإسرائيليين على التصرف معهم على نحو بشع!! خرجت المظاهرات في كل أنحاء العالم لأن الإنسانية في النهاية هي ما يجمعنا إلا في بلدان قليلة من بينها إسرائيل نفسها التي قال فيها قبل عام بالضبط نائب وزير الأديان ( هكذا!!) ايلي بن دهان وهو من حزب «البيت اليهودي» عن الفلسطينيين « بنظري هم حيوانات وليسوا آدميين. الشعب الفلسطيني لم يترب على السلام ولا يريد السلام. ماذا يعلمونهم في الحضانات ؟ نحن نأخذ الأطفال إلى منتديات الرياضة. وهم ماذا يفعلون في مخيمات الاطفال ؟ أسلحة ويمثلون الحروب؟».


أطفال غزة الذين كان ثلث شهداء القطاع في هذا العدوان منهم والذين يحتاج 360 ألفا منهم لرعاية نفسية، حسب أرقام «اليونيسيف»، هؤلاء الذين شاهدوا أقرانهم تهدم بيوتهم على رؤوس أهلهم وخسروا إخوة وأمهات وآباء وأجدادا وأقرباء وجيرانا… هؤلاء ومعهم إخوانهم في الضفة الغربية والشتات هم من سيقرر في النهاية كيف ستكون حياة الاسرائيليين في المستقبل، بل وقد يقررون مآل دولتهم مرة واحدة. في إحدى جلسات التفاوض الفلسطينية الاسرائيلية الأمريكية المريرة طرحت مسألة صعبة القبول على الرئيس الراحل ياسر عرفات فما كان منه سوى أن أجاب بأنه سيعود للجنرال فارس عودة قبل أن يعطيهم جوابه النهائي. إحتار الحضور لأنه لم يسبق لأي منهم أن سمع بهذ الإسم من قبل. فارس عودة هذا لم يكن سوى ذلك الطفل الفلسطيني ذي السبع أو الثماني سنوات الذي جابت صورته العالم بأسره في الانتفاضة الاولى عام 1987 وهو يقف أمام الدبابة الاسرائيلية ويرميها بحجر. الشاهد هنا أن عرفات أراد أن يقول لهم بأن من يقرر المستقبل هو أصغر طفل في شعبه وليست القيادة السياسية.


فارس عودة هذا هدمت إسرائيل بيته في عدوان غزة الحالي وكأنها تمنعه من النسيان إن كان نسي أصلا ما تعرض له أقرانه وقتها . «أطفال الحجارة» هم الذين صاروا اليوم رجال الأنفاق والصواريخ. أما أطفال مجازر رفح والشجاعية ومدارس الأونروا فهم الذين يتعين على إسرائيل مواجهتهم في المستقبل. مع هؤلاء لن يهنأ لها حياة وسترى معهم ومنهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. على أنفسهم جنى الإسرائيليون.