محمد المزيني

الذي أقسم على رفع علم «داعش» في روما ولم يبرَّ بقسمه، بأمر من أمير الجهاد الداعشي، لم يكن يُلقي كلاماً جزافاً، بل صادر من المحتوى أو الشريعة الجهادية التي يؤمن بها ويعمل من أجل تحقيقها.

&فلو عدنا إلى بعض التأويلات القرآنية والرؤى الناتجة منها لأدركنا العمق الإيماني والتبشيري الذي يحمله الأمميون الحاملون لشعلة المستقبل الواعد بأمة واحدة تحت راية الإسلام، فمنذ أن ابتدر الصحويون العمل الإسلامي في الربع الأول من القرن الماضي، وهم يعملون على غرس هذه القيمة القاعدية، المستمدة من البشارات الرسولية، كحديث فتح روما على غموضه في ما يتعلق بروما.

&تتضخم هذه الأحلام أحياناً لتقترب من محاولة تجسيدها على أرض الواقع، حتى وإن غفت بين جوانح الصمت ردحاً من الزمن، فلا تلبث أن تعود لتشكل الشعلة المضيئة التي يلتف حولها مستبطنو عزيمة الجهاد، محدثو أنفسهم بها ليل نهار، ولم يكن ليعلو ضوء هذه الشعلة الخافق بمعزل عن مؤججيها في قلوب الشباب المفرَّغين من العلم، الذين لم يكن يسعهم سوى تلقي ما يتفوه به مشايخهم؛ ليتخذوه عقيدة تُبذل من أجلها الأرواحُ، وقد غرسوا في قلوبهم عبر الخطب والدروس المكثفة؛ ارتباطاً من نوع خاص بالآخرة، لا يبدأ من بناء الدنيا بأخلاق الدين الحقيقية، بل بالتطلع أو القفز على ما يسمى «الوضع الراهن المتردي للأمة الإسلامية»، إن كان ثمة ما يمكن أن يوصف بأمة، بإشعال الحروب واختلاق الفتن؛ من أجل التمظهر بالحالة الجهادية، وإيجاد مساحات شاسعة لها على أنقاض الدول التي نهشتها الثورات الفاشية، بما يشبه الاختطاف الزمني السريع والمتعجل إلى بناء الإسلام المتجاوز للحدود، إلى ما هو أبعد من الحلم بالوصول إلى روما، وهدم الفاتيكان وبناء المسجد الرسولي المحمدي هناك، قبل بنائه في السرائر وإظهاره كقيمة إنسانية عالية بين المسلمين أنفسهم، وقبل الوصول إلى الآخر، وقبل بناء مجتمعات محترمة، وإنسان يؤمن بالنظام ويفهم معنى القوانين ويقدس الحرية، عندها لن يكون الإسلام بحاجة إلى أن يدجج البشر بالسلاح، ويقطِّعوا من أجله الأعناق، ويفجَّر بالأجساد؛ فداءً لهذه البشارة الرسولية.

&لقد عمل الصحويون ردحاً من الزمن على وضع الإسلام في خانة عدائية للآخر، ورأوا بأفقهم الضيق أن الدين لا يمكن أن يكتمل إلى بتصفية كل المخالفين، وليس ثمة طريق إلى ذلك إلا من خلال تكثيف الدروس والخطب بمادة دسمة تحمل البشارات، التي تؤكد أن مستقبلاً للإسلام المنتظر قد آن أوانه وحان قطافه، وكما قلت ليس بالأخلاق، بل بالخروج عن ربقة الدين.

&كيف كانت تقدم الدروس المتموضعة في إسلام المستقبل؟ تلك التي أُسس لها وفق رؤية متخيلة، استبدت بقلوب آلاف الشباب المستلَبين؟ وكيف سيتمكن الإسلام من الوصول إلى روما؟ وتساق الدلائل الواقعية والتاريخية والنصية على أن كل الحضارات وعلى رأسها الحضارة الأميركية في بداية التهاوي والانحدار، فتؤجج القلوب حماسةً، وتلهب الأرواح توقاً إلى ذلك اليوم، يوم النصر المبين، بينما إسرائيل المحتلة تنعم بهدأة وسلام، وتعمل على تشييد المستوطنات بكل حرية، وتُمتِّن من ترسانتها العسكرية.

&بينما الجهاديون الحالمون بروما لم يستطيعوا حتى اليوم، أو -لنقل- لم يجرؤوا على مناهضة العدوان الإسرائيلي، الممعن بقتل وهدم منازل إخواننا الفلسطينيين فوق رؤوسهم، وتشريدهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع.

&اليوم، قد انكشف الغطاء، وانتفت حجتهم الأزلية، بأن ما يحول دون ذلك الحدود العربية، المغلقة أمامهم للوصول إلى العدو، بعدما باتوا قريبين جداً من الجولان المحتلة.

&لماذا تركوها إلى عين العرب؟ هل صغرت فلسطين بأعينهم إلى هذه الدرجة وكبر الدم الإسرائيلي عليهم، فبدا لهم الدم العربي المسلم أسهل وأشهى للاصطياد؟ وصار إمعان الفصائل الجهادية بالقتل والتفخيخ والتفجير وتلقي الصواريخ الهاطلة من السماء أسهل عليهم وأهون؛ لأنهم موعودون بالوصول ذات يوم قريب جداً -كما يزعمون- إلى روما، ولن يتم ذلك إلا من خلال كوباني، فهم عندما يقتحمون عين العرب لا يعنيهم الوصول إلى الجولان المحتلة وتحريرها من سيطرة العدو الإسرائيلي، وفتح ثغرة تصلهم بالعمق الإسرائيلي، بقدر ما تعنيهم البشارة الأولى.

&ففلسطين لا تساوي عندهم كوباني ذات الموقع الجغرافي المتاخم لتركيا، فهي اليوم تحتل منطقة شاسعة، تمتد من مدينة منبج في ريف حلب على الحدود السورية-التركية شمالاً، إلى مشارف بغداد جنوباً، فلو تحقق الانتصار في كوباني فسيؤهلها ذلك إلى عقد تحالفات مع كل الفصائل المتحاربة، والأكراد والقوى المنشقة في المنطقة، كما سيدفع بالمؤمنين بهذه البشارة إلى الانضمام إلى تنظيم داعش، وسيعزز هذا من الثقة بالاقتراب من الحلم في استعادة القسطنطينية من أيدي العلمانيين، إذ إن النبوءة تقول وفق مدلولاتها وتأويلاتها الخاصة: (إن المسلمين لن يفتحوا روما إلا بفتح هذه البلاد، فإذا كنا نريد حقاً أن نفهم لماذا يفجِّر الشباب أنفسهم فهو من أجل عيني روما الحلم، وإن كنا نريد أن نفهم لماذا يندمج الشباب فوراً مع هذه العقيدة العدمية؛ لنتمعن في كل ما وضع بين أيدي الشباب من كتب ودروس ومواعظ تتبنى هذه العقيدة).
&