محمد الرميحي

في الوقت الذي يشهد فيه الإقليم العربي انقساما غير مسبوق، سبقته سلسلة متواصلة من الفشل في إدارة الدولة الوطنية، أفرزت كما نعرف ونشاهد الكثير من الموبقات، شهدت مدينة أكسفورد، مقر العلم تاريخيا في بريطانيا، وربما مكتبتها تضم أضخم الأسفار في العالم في معظم العلوم المعروفة، بمشاركة وتمويل من مؤسسة عبد العزيز البابطين الثقافية، ندوة علمية بعنوان «عالم واحد وتحديات مشتركة»، جرت وقائع الندوة التي حضرها كثير من أهل الرأي العرب والغربيين على مدار يومين الأسبوع الماضي، من أجل مناقشة موضوعات لها علاقة وثيقة بمصالح العالمين الغربي والعربي. كانت المناقشات مركزة على الوضع العربي الحالي، والعلاقة مع أوروبا. مؤسسة البابطين الثقافية تضع الأعمال مكان الكلمات، ويبذل راعيها من المال والجهد الكثير من أجل هدف واحد، هو محاولة إرسال رسالة للغرب، بأن العرب ليسوا بالضرورة «داعش» أو جماعة ممن يسعون وراء قتل الأبرياء أو الولوغ في مستنقع الدم، لا هم ولا المسلمون.


العرب والمسلمون في أوروبا في السنوات الأخيرة رسمت لهم صورة سلبية للغاية، وقد هال الغرب مؤخرا تدفق اللاجئين من العرب خاصة إلى أوروبا، وقد اعتقد معظم الرأي العام الغربي أن هناك غزوا جديدا لحدوده، وانتهاكا لطريقة عيشه، هذا الانتهاك غير مسلح، بل في أثواب الضعف وطلب المعونة من عدوان لم يكن إلا داخليا من أصحاب الدول الفاشلة، إلا أنه قد ينقلب بعد حين إلى بؤر عدم استقرار في المجتمعات الأوروبية!
قبل يوم واحد من الاجتماع في أكسفورد حملت «الغارديان»، الصحيفة المهمة في بريطانيا، موضوعا لافتا عن جماعة جديدة من السياسيين والفنانين والإعلاميين البريطانيين، يطالبون برفع مقاطعة الفنانين والأكاديميين البريطانيين للدولة الإسرائيلية، وكانت تلك المقاطعة قد أخذت لها مسارا تصاعديا للتعاطف مع الفلسطينيين في السنوات التي أعقبت حروب إسرائيل ضد غزة. الوضع العربي المتدهور جعل تلك الجماعة تبرز على السطح وتجد لها مؤيدين أيضا، على قاعدة أنه لا يمكن مناصرة التخلف الذي يقطع رقاب الناس في الشرق الأوسط على حساب «التحضر» وحصلت الفكرة على عدد من الموقعين، تم وضع أسماء بعضهم في ذلك المقال. في حساب الخسائر والأرباح العرب خاسرون، لأن فائض الغضب العربي يتوجه بشكل حاسم إلى إفراز السلبية المطلقة في معالجة مظالمهم، لم يكن الغضب لدى أبناء جنوب أفريقيا إبان حكم التمييز العنصري أقل من غضب العرب اليوم، إلا أنهم وهم يواجهون رصاص البيض في الشوارع، لم يختطفوا الطائرات ولم يفجروا الآمنين، أو يُهجروا الملايين من أوطانهم، كان غضبهم محسوبا بدقة تجاه مضطهديهم، وهكذا تعاطف العالم معهم، ليس بالسرعة اللازمة، ولكن في نهاية المطاف نالوا مطالبهم العادلة، وكذلك الفيتناميون الجنوبيون الذين واجهتهم ماكينة السلاح الأميركي بكل عنفوانها بما فيها قنابل النابالم الحارقة، إلا أن غضبهم كان محسوبا أيضا من أجل تحقيق هدف وطني، وأخيرا حققوه، دون، مرة أخرى، خطف طائرات أو حرق البشر أحياء أو قتل المخالفين الأبرياء فقط لأنهم مخالفون. توجيه فائض الغضب العربي، تُرك للمغامرين الجهلاء أو لجماعات ما دون الدولة التي بعضها مجرد عميل لدول إقليمية لاستثماره سلبيا.


فائض الغضب العربي ظهر في لقاء أكسفورد، مركبا على حقائق تستحق الغضب من أجلها، فعلى سبيل المثال لا الحصر خمسة من كل ستة من اللاجئين في العالم في السنة الأخيرة هم من العرب، خُمس تعداد العالم (العرب) ينتجون نصف اللاجئين في العالم، ومعظم أبناء الصراعات في كل من اليمن والعراق وسوريا وليبيا، الذين هم في سن التعليم الأولي أو الثانوي خارج مقاعد الدراسة، ذلك يعني أن جيلا جديدا من الجهلة يضاف إلى جيل سبقه، وهم أيضا جهلة غاضبون.


قال أحد المتداخلين في النقاش: ما شأننا نحن العرب، لماذا نحن في هذا القاع من التدهور؟ سؤال تسمع له تنهيدة عميقة في تلك القاعة التي ضمت عددا من أبناء العرب الذين إما كانوا في السلطة أو ما زالوا فيها أو قريبين منها، مع عدد من الأجانب غير العرب الذين يسألون بدورهم نفس السؤال.


محاولة الحديث بعاطفة في هذا الأمر الجلل، هي مرة أخرى إضافة للكلام على الكلام، إلا أن مؤسسة عبد العزيز البابطين لم تتجشم كل هذا العناء المادي والمعنوي من أجل الكلام، من هنا قدم الرئيس فؤاد السنيورة الذي ألقى ورقة لا تنقصها الصراحة، حلا عمليا وعقليا لتوجيه الغضب العربي بشكل يؤدي إلى نتائج ملموسة، وهي من خمس نقاط تشتمل على: أولا: علينا أن نعمل على حل المشكل الفلسطيني على قاعدة المبادرة العربية عام 2002 التي تقول بوجود دولتين منها فلسطينية في حدود ما احتل عام 1967، وثانيا: أن التشدد ينتج التشدد المضاد، وعلى السياسيين الروس أن يفهموا أن معظم السوريين ضد الديكتاتورية، وعلينا أن نعمل في الملف السوري على قاعدة «جنيف1»، ولا بديل عنها. وثالثا: حل عاجل لوقف الاقتتال في ليبيا وأيضا اليمن، على قاعدة قرارات الأمم المتحدة. ورابعا: أن تفهم إيران بأوضح الكلمات أن تدخلها في الشؤون العربية على قاعدة تصدير الثورة، هو أمر غير مقبول من العرب قاطبة، وخامسا: أن نعيد ترتيب التعاون الاقتصادي العربي، لأنه القاعدة الرئيسية لتطور عربي فعال في عالم يقوم بإعادة الاصطفاف على قواعد اقتصادية/ سياسية من أجل الاعتماد المتبادل. تلك «وصفة» توجيه الغضب العربي توجيها إيجابيا.


النقاط الخمس، هي فهمي الشخصي لما ذهب إليه السنيورة في مطالعته في اجتماع أكسفورد. الذي كان توقيته ملحا وخطيرا يكاد يصل بالعرب إلى مرحلة انعدام الصبر. خطة السنيورة هي محاولة جادة لتوجيه الغضب التوجيه الصحيح، لأن غضب العرب بلا مشروع واضح، قاد إلى كل حمام الدم والأفعال المشينة التي ترتكبها مجموعات ما قبل الدولة، التي انتشرت بعد فشل الدولة الوطنية في القيام بواجباتها، مما سهل أمرين، ظهور الجماعات المتشددة، وسهولة التدخل الإقليمي في آن.


الصحافة الأسبوعية البريطانية ليست متفهمة للوضع العربي، هي تقرأ المشهد كما تراه وتفسره حسب مصالحها، عند كثير منها العربي بالضرورة هو داعشي، إلى درجة أن مجلة «الموقف» الشهرية العتيدة في عدد أكتوبر (تشرين الأول) حملت عنوان «لعنة الخليفة» تقول المجلة: إن «(داعش) تهدد ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا)»، وتفسر ذلك أن سياسات استقبال اللاجئين (الفارين من الحرب في سوريا) تُهدد لأول مرة، وبشكل جدي، القواعد التي بني عليها الاتحاد الأوروبي وتهز توافقه، فألمانيا تسعى إلى فرض نسبة محددة لكل دولة أوروبية من اللاجئين، وآخرون يرون أن تلك السياسة سوف تعجل من تدفق لاجئين جدد أكبر حجما وأكثر زخما، وفي ذلك تهديد خطير لبنائهم الاجتماعي، ولن يكون الأمر مفاجأة إذا انسلخت دول أوروبية عن الاتحاد بسبب معارضتها لتلك السياسة، هكذا الأمر خطير. البعض يرى أن الحل في وقف هذا التدفق من خلال وضع حل نهائي للصراع في سوريا، ولكن المشكلة هي من يعلق الجرس هناك، في ضوء التدخل الروسي الأخير الذي عقد المشكلة.


لم يكن لقاء «عالم واحد وتحديات مشتركة» مقتصرا على المشهد السياسي، فقد كان المشهد البيئي والمشهد الشبابي حاضرين بقوة في لقاءات الندوة. المهم هنا أن يبنى على ما اقترح، وأن تلتقط المؤسسات الرسمية الخيط من القطاع الأهلي لإكمال خطوات العمل على مشروع توجيه فائض الغضب العربي توجيها يخدم مشروع الأمة، بدلا من لعن الظلام.
آخر الكلام:
معظم المجموعة الأوروبية التي شهدت الندوة، وبعضهم من الأكاديميين، كانت مفاجأتهم بالأرقام والمعلومات عن منطقة الشرق الأوسط العربية لافتة، وهي دليل على القصور الذي أصاب مؤسساتنا في الوصول إلى هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا الحقيقة.
&