عبير العلي

لا توجد دولة في مأمن عن الإرهاب الداعشي الذي يبرر أفعاله تارة باسم مخالفة المذهب وتارة باسم قتال الكفار أو الصليبيين أو أي مبرر للقتل يخلق له مرجعا شرعيا وفقهيا تدعمه الفتاوى المضللة

&


الأحداث الإرهابية التي تحيط بالعالم العربي منذ سنوات، والتي تمتد تجاه الغرب قليلا بشكل متتابع بعد تفجير الضاحية الجنوبية في لبنان الذي وقع ضحيته قرابة 45 قتيلا وأكثر من 200 جريح، ليأتي في الثالث عشر من نوفمبر الجاري الهجوم الإرهابي الذي كانت باريس -مدينة النور والحب- ضحية له، تشير إلى أن دول العالم جميعها فشلت فشلا واضحا ومخجلا في محاربة الإرهاب أو محاولة السيطرة عليه، وهذا يعني أن على الدول التي تعلن ليل نهار عن مكافحتها للإرهاب أن تغير أساليبها وخططها في مواجهته والتعامل معه.


لقد أعلنت داعش تبنيها لهذه الحادثة الدموية، فالمواقع الستة التي حدثت فيها العمليات الإرهابية في باريس والتي راح ضحيتها أكثر من 120 قتيلا وقرابة 200 جريح؛ تحمل دلالات رمزية تؤكد المنهج العدائي الذي تقوم عليه هذه الحركة الجهادية ومثيلاتها التي تسعى في أدبياتها لنشر ثقافة الموت والدمار ومحاربة الحياة والاستقرار، فمن إستاد رياضي إلى مواقع مطاعم ومقاه مختلفة حتى قاعة للموسيقى في مسرح باتاكلان. وهذا لا يعد أمرا غريبا أو مستبعدا، وقد أقدم المنتسبون لها على تفجير أنفسهم دون تردد في مساجد وحسينيات مسبقا في السعودية والكويت ومتاحف وشواطئ في تونس، ولن تتردد في نهجها الدموي في أن يكون الإنسان -مهما كان دينه أو مذهبه أو موطنه- هدفا قادما لها. هذه الرمزية قد تشمل استهداف فرنسا أيضا كونها من أكثر الدول الواضحة في مساعيها لمساعدة الثورة السورية والراغبة في إزالة الأسد كبداية لإحلال السلام في سورية لتتقاطع في ذلك مع السعودية. ولكن هذا لا يعني أن بقية الدول في مأمن عن مثل هذا الإرهاب الداعشي الذي يجد له مبررا تارة باسم مخالفة المذهب وتارة باسم قتال الكفار أو الصليبيين أو أي عذر ومبرر للقتل يخلق له مرجعا شرعيا وفقهيا تدعمه الفتاوى المضللة والمحرضة.


وكما يحدث عقب كل عملية إرهابية -خاصة تلك التي يتبناها داعش في بيناته الرسمية- فإن الآراء تنقسم بين تلك التي تستميت حول نظرية المؤامرة التي تتخيل أن كل هذا المشهد الدموي قد دبر بليل من نفس الدول التي تدعي محاربة الإرهاب حتى تثبت وجهات نظرها وتخلق "فوضى خلاقة" في المنطقة تسمح لها بمزيد من التدخل في الشؤون الداخلية لبعض البلاد العربية، أو الرأي الآخر الذي يقارن بسذاجة بين ما يحدث على مدى سنوات في سورية أو العراق أو اليمن وغيرها من الدول التي تعيش تحت خطر الإرهاب، أو بعض الأحداث التاريخية التي حدثت قبل عشرات السنين وبين ما قامت به "الذئاب المنفردة" في ليلة واحدة بدم بارد وبمبررات بربرية ويعتبرونها "غزوة" مباركة وانتصارا للدم العربي والمسلم في أماكن وأزمنة مختلفة. وأيا تكن الآراء حول ما حدث فإنه لا أحد يستطيع أن ينكر أن داعش يستخدم أدواته جيدا ولديه مهارة عالية في إدارة وتجنيد المنتمين له وقدرة على اختراق الأجهزة الاستخباراتية والأمنية للدول المتقدمة. وأن المادة الخام له جاهزة في عقول الشباب الذين لا يترددون في الاستجابة لأي نداء قد يظن فيه أنه سينتصر لدينه أو عقيدته أو إنسانية من مُزقت إنسانيتهم في الدول التي تعيش تحت جحيم الثورات والتهجير والضربات العسكرية، بينما الساسة يتناولون مسائلهم ببراجماتية تخدم مصالحهم واقتصادهم ونفوذهم العالمي.


فشل الدول في السيطرة على الإرهاب والقلق الذي تعيشه الآن - والذي انعكس بشكل واضح على مؤتمر فيينا الأخير وعلى اللقاءات الجانبية لقمة العشرين في أنطاليا - من أن تحرقها ناره؛ يحتاج صرامة في التعامل مع الأدوات المستخدمة لهذه العمليات الإجرامية، كالأشخاص الذين يثبت قيامهم والمؤمنين بأيديولوجية القتل والكفاح الموروثة منذ أيام الهزائم الاستعمارية والأفكار الجهادية التي يحاولون من خلالها إما الوصول لدرجة متخيلة من كمال الإيمان أو الشعور بالانتصار النفسي الواهم ضد كمال التجربة الغربية وهيمنتها، وذلك عن طريق قطع الطريق على وصولهم للداخل الأوروبي، خاصة من أولئك القادمين من خارجها من المهجرين من بلادهم الأصلية خلال حركة الهجرة الهائلة التي تشهدها أوروبا في الأشهر الأخيرة من دول الصراع عن طريق العمل على استقرار تلك الدول، والبحث عن الوسيلة التي تنتشر من خلالها الدوافع "الفكرية" التي تحرض على القتل ومجابهة أصحابها، وهذا ما أعلنه صراحة رئيس الوزراء الفرنسي الأحد الماضي بأن: بلاده "تتوقع ردودا أخرى من الإرهابيين"، وشدد على: "القضاء على أعداء الجمهورية وطرد كل الأئمة المتطرفين ونزع الجنسية عن أولئك الذين يهزؤون بما تمثله الروح الفرنسية".


كما أن على الدول العظمى أن تسعى إلى حسم الصراعات السياسية في المنطقة والتي تقوم بطريقة أو بأخرى بدفع البعض للانتقام أو التشفي والاستهانة بأي أرواح تنتمي لهذه الدول. والعمل بشكل جاد على قطع الإمدادات المادية وبيع الأسلحة لداعش أو أي أحزاب إرهابية في المنطقة ومحاربة الدول والمنظمات الداعمة لها، مع العمل على تقوية العمل الاستخباراتي للدول والتعاون المشترك فيما بينها.
تتبقى مشكلة الفكر الجهادي الذي ينبثق من تراث فقهي يحتاج المراجعة والتفنيد والمقاومة الجادة من الدول والجهات المصدرة له حتى لا تغرق الدول الإسلامية والعربية وشعوبها في مزيد من الظلام والعزل عن العالم المتحضر والارتكاس أكثر بين روائح الدماء وأشلاء الجثث.
&