بول شاوول


كم خريطة طريق باتت مُدرجة في أوراق المعنيين في الأزمة السورية؟ أَكل اجتماع خريطة؟ وكل واحدة إما تُفرغ الأولى من مضمونها، أو تعطلها، أو تغير في اولوياتها، ونتائجها: من جنيف إلى يينا فإلى نيويورك، تسبق الخرائط المتحولة المجتمعين، والمسؤولين إي كل خارطة «تغني على ليلاها». تبدأ واحدة بإبعاد الأسد عن كل حل، ثم تأتي ثانية لتقرّبه، ثم ثالثة لتجعله جزءاً منه. بدأت المشاورات وانعقدت الاجتماعات قبل «داعش« و«النصرة« وكان «الجيش الحر«، والقوى الديموقراطية المعارضة، من علمانيين واسلاميين معتدلين، في صُلب كل المحادثات باعتبارها، بعدما اختار الأسد المواجهة الحربية لضرب الثورة السلمية التي اندلعت لإسقاطه عام 2011 تحقق انتصارات ميدانية كانت على وشك أن تُطيح الدكتاتور.

دخلت إيران بفيلقها «القدسي» وسليمانها الحكيم، (مصيره غير معروف)، والتحق بها «حزب الله« تحت شعار مذهبي. فمعركة تحرير سوريا من النظام جُعلت مذهبية. بدأت بإسقاط الأسد ثم حُرَّف الصراع عن أهدافه الأولى. ثم «استدعي» داعش الذي نما كالفِطر قوة وعتاداً ومالاً وسلاحاً، واجتاح مناطق واسعة من سوريا والعراق وعلى رأسه البغدادي، الذي عين نفسه خليفة على المسلمين. و«داعش« الذي استنبته، مع عوامل أخرى، الموقف الغربي لا سيما الأميركي المتخاذل، صار عنواناً للإرهاب. تحولت إذاً المعركة. من معارضة ثورية سلمية، فعسكرية محورها اسقاط الأسد، إلى معركة مع الإرهاب.

صار عندنا الآن معطَى جديد. أدوار جديدة اخترقت المسرح. تراجعت قوة الجيش الحر، وتقدم داعش والنصرة. الأول يحارب (وحزب الله وإيران وروسيا) الجيش الحر، والثانية تحارب نظام الأسد. وتغيرت خريطة الطريق من جديد: روسيا التي غزت سوريا وانتزعت ورقتها من الملالي، متمسكة بالأسد باعتباره رئيساَ شرعياً يواجه مثلها الإرهاب. وبعد مجزرة باريس تصدَّر موضوع الإرهاب المشهد كله ليصل إلى حدود احتمال التعاون مع بشار الأسد لدحر الإرهاب. لم يعد يُعتبر هذا الأخير جزءاً من الحل في سوريا فقط، بل صار في جبهة مكافحة الإرهاب مع حلفائه «طغاة» العصر: بوتين وخامنئي وصولاً إلى أردوغان ومن دون أن ننسى أوباما. وعلى الرغم من استمرار الرئيس الفرنسي المطالبة برحيل الأسد فقد راحت الصحف الفرنسية من يمينية ويسارية تطالب هولند بالتعاون مع طاغية سوريا، «كما تحالفت فرنسا مع ستالين لمحاربة هتلر«. كل الصورة تغيرت، خصوصاً، بعد الدخول الروسي المعارك، ونصبه قواعد عسكرية، صواريخ واتيانه بالسفن الحربية والطائرات... يريد أن يكون هو حامل مفاتيح قصر المهاجرين والحل والمستفيد من الأزمة السورية لمواجهة مشاكله الاقتصادية في بلاده، واستعادة «مجد» القياصرة وستالين معاً.

[من يينا

لكن مع هذا تمت اجتماعات دولية في يينا وسواها وطرحت خريطة طريق جديدة، قد تؤدي إلى سوريا وقد لا تؤدي إليها. والمشكلة الأساسية هي محاربة الإرهاب، لكن مع تعديل دور الأسد، من خلال تمسك السعودية ودول الخليج، وهولاند (رمزياً) وأوباما باستبعاد الأسد من كل مشروع مستقبلي في سوريا، ورد بوتين «بأنه باقٍ في سوريا ما دام جيش الأسد يقاوم الإرهاب». إذاً عودة إلى نقطة الصفر. أي إلى ابتكار«حلول سحرية» تجمع بين مسألتي الأسد والإرهاب. أيهما نختار: الإرهاب أم الأسد؟ أي الإرهاب أم الإرهاب.

ونظن أن كل خريطة طريق صارت حالياً توفر للأسد دوراً في المرحلة المقبلة، وأياً تكن المقترحات والمطارحات فستبلى بالفشل، وتبدو وكأنها استمرار في تدمير سوريا تدميراً ممنهجاً من روسيا وإيران... وتركيا واسرائيل. فإذا بقي الأسد جزءاً من الاقتراحات فيعني أن كل شيء محكوم إما بهزيمة المعارضة، على المدى القصير والبعيد، وإما مواصلة الصراع القاتل.

[البقاء

فمن بنودٍ مشتركة بين جني واحد ويينا مثلاً، تأليف حكومة انتقالية مدة ستة أشهر يبقى فيها بشار الأسد على أن تدوم فترة الانتقال 18 شهراً، يتم خلالها وضع دستور واجراء انتخابات، على ألا يكون للأسد في هذه المرحلة أي دور، حتى في إطار ترشحه للرئاسة.

أوراق امحى فيها اسم الدكتاتور. عال! كان ذلك في جني ثم يينا. لكن روسيا وإيران رفضتا كل ذلك، لأنهما ما زالتا تراهنان على رئيس لم يعد له أي وجود «فعلي» على مجمل الأراضي السورية. وهنا بالذات يمكن كشف المجاز الروسي: «نحن لسنا متمسكين بالأسد، لكن الحل يفرضه الشعب السوري عبر صناديق الاقتراع» عادتا إلى «الديموقراطية» (وفاقد الشيء لا يعطيه) وإلى الشرعية: «والأسد رئيس شرعي منتخب دستورياً» وحتى موعد الانتخابات المفترضة، فهو يبقى مشاركاً في كل المراحل، لا سيما وإنه يحارب «صنوه» داعش. وإذا كانت روسيا وإيران ترفضان هذه الحلول، فما بالك بداعش وقد بات من اللاعبين الأساسيين في الأزمة السورية، خصوصاً وأن هذه الأخيرة باتت مسرحاً لكل أشكال العنف التي يرتكبها داعش (طبعاً مع فيلق القدس وحزب الله) وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم انكباب السياسات العالمية على المسألة السورية. العالم كله يريد مقاتلة الارهاب الداعشي. إذا كان الأمر كذلك فما هي المشكلة؟ انهم يوحدون قواهم، ويعقدون المؤتمرات ويستخدمون كل أنواع الأسلحة الحديثة لدحره. عال! أين المشكلة، إذاً، ما دام الجميع متفقين على محاربة «النازية الجديدة»؟ وإذا كان هذا الإرهاب ظاهرة مرعبة وبربرية فلمواجهتها مواجهة جدية شروط، تفرضها روسيا مرة وتركيا مرة أخرى وإيران مرات، والأسد هو محور الخلاف لا الإرهاب.

فلنتوقف قليلاً عندما تزعَمه إيران وروسيا حول بعض المسائل، وبنود الاتفاقات وخرائط الطريق.

[نقاط

1 فالشرعية التي يخلعها هؤلاء على الأسد مشكوك فيها أصلاً: وصل إلى السلطة لأنه بكل بساطة ابن الرئيس الراحل حافظ الأسد. وان والده وصل بدوره إلى حكم سوريا عبر انقلاب عسكري. فابن الانقلاب يكون انقلابياً، وليس كل انقلابي شرعياً.

2 ان رئيساً بات مجرد ورقة في أيدي الدول المتصارعة من دون سند شعبي، هو رئيس غير شرعي. بل ان رئيساً يتخلى عن سيادة بلده ويستجلب قوى خارجية لمساعدته على شعبه، غير شرعي.

3 ان رئيساً أخرج الارهابيين من السجون وارسلهم إلى العراق للقيام بعمليات إرهابية، تفجير سيارات، تفجير أحزمة، ارتكاب مجازر، ثم تحولوا مقاتلين في سوريا هو رئيس غير شرعي.

ان رئيساً مشتبهاً بتورطه بقتل زعماء لبنانيين كالرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعض رموز 14 آذار، غير شرعي.

4 هذا الرئيس المتهم بانتهاك حقوق الانسان، واستخدام الغازات السامة المحرمة دولياً، تريد ايران ان يكون جزءاً من الحل: يتكلم الكثيرون مثلاً عن اجراء انتخابات باستمرار وجود الأسد في السلطة. السؤال أي انتخابات؟ بل أين يمكن أن تجري؟ أفي المناطق الخاضعة للسلطة؟ فهذه لا تمثل سوى ربع الأرا ضي السورية. وإذا كانت هذه المساحة السلطوية محدودة (أين الشرعية) فأين هو الشعب السوري لينتخب؟ تهجير 4 ملايين موزعين بين لبنان والأردن وتركيا وأوروبا.

5 وهنا السؤال المطروح: هل تظن روسيا بمشاركتها الوحشية في سوريا، بأنها إذا خلقت العراقيل وبقيت متمسكة بالأسد، واستمرت في ضرب المعارضة بغية تدميرها كُلياً، واخلاء الساحة لحليفها كمنتصر على شعبه فان ذلك من رابع المستحيلات سواء دام ستة أشهر ام ستة أعوام. فالمشكلة الأساس راسخة في مفاصل الجيش النظامي نفسه، فهو على امتداد أربع سنوات وبكل أسلحته المتطورة وطيرانه وصواريخه وقنابله العنقودية والكيمائية واستخدامه كل ما عند روسيا من أسلحة حديثة لم يستطع (وحلفاؤه) القضاء على الذين يسميهم «عصابات إرهابية، ومجرمين ومرتزقة» علماً بأن هؤلاء ما كانوا يمتلكون آنئذ سوى أسلحة خفيفة بسبب الحظر الأميركي على تزويدهم أي عتاد فعال. بل إن هؤلاء وعلى الرغم من فقدان توحدهم في قيادة موحدة وبلا أسلحة ثقيلة لم ينجحوا فقط في صد هجمات الجيش النظامي، بل سيطروا على مدن عدة... وأوشكوا على اسقاط الأسد ونظامه.

واذا كنا نعرف جميعاً ان الجهاديين «انخرطوا» قبل سنتين فقط، في الحرب السورية فلأن النظام عجز عن دحر المعارضة. جاؤوا على حطام فشل إيران و«حزب الله« والنظام والسلاح الروسي.

[الحل النهائي والروس

على هذا الأساس، نرى، انه إذا كان الروس يعتقدون بأنهم خلال الفترة القادمة (ستة أشهر أو أكثر) يمكن أن يحققوا تحولاً على أرض المعارك، أو يحسموا مسألة الحرب لمصلحة الأسد، ليتم كل تفاوض انطلاقاً من هذه المتغيرات، فهم واهمون، تماماً كما توهمت إيران وميليشياتها وعسكرها وفيالقها انها قادرة على انقاذ النظام ومشاركته في حكم سوريا. ذلك لأنهم يخشون أن تؤدي المبادرات الدولية إلى حلول لا يرتضونها، أو لا تعادل خسائرهم وموقعهم وطموحهم في التمدد نحو الشرق الأوسط.

حتى وان تراجع دور إيران السياسي والعسكري في سوريا وتقدم الدور الروسي ووضع الارهاب «أولوية» دون سواها فإن الوضع ما زال على أحواله، وكره وفره، في الميدان القتالي (ما عدا تضاعف وتيرة تدمير سوريا) فإننا نظن ان كل حل «يركب». الأسد على مستقبل سوريا، آيل إلى السقوط لا محالة. فالمسألة لا تتعلق كلها بإرادة المتفاوضين الكبار (كل الأفرقاء السوريين صاروا مفاوضين ثانويين، على الأقل بنظر هؤلاء الكبار) بل بعناصر أخرى متضادة. أولاً داعش، فاذا كان جزءاً من الخراب العالمي فالأسد كذلك. وكل الهجمات الوحشية التي تمت في باريس ولبنان، رفعت شعار: «انتقاماً لسوريا» أي تدخل القوى الخارجية لا سيما التي تمسكت برحيل الأسد، استهدفت. وعندما يقال ان الرابح الوحيد بعد هذه الاعتداءات الوحشية هو الأسد، فيعني أن ما ارتكب ليس بعيداً لا عن دور الأسد ولا بوتين ولا إيران: تلاقي المختلفين (شكلاً) أو الحلفاء ضمناً، خصوصاً عندما اكتشف العالم ان النظام السوري ومعه حزب ايران، وفيلق القدس، لم يحاربوا داعش، ولم يقصف بالبراميل المتفجرة، ولا بالكميائي، بل استهدف الجيش الحر. هذا يعني. حتى روسيا بوتين فإنها تضرب الجيش الحر، اكثر مما تواجه داعش. فهذا الأخير اي الارهاب هو المعادل لبقاء الأسد: فبين هذا الأخير وبين داعش، ومن ضمن الظروف المستجدة، فالعالم سيفضل حتماً ارهاب الدولة لا ارهاب الميليشيات.

[دور «داعش«

وعلى هذا الأساس يتكون دور «داعش» باحتمال رفض كل الحلول «الدولية»، (باستبعاد الأسد أو بإخراجه من المعادلة)، وهذا عنصر مهم لا يمكن اغفاله في المفاوضات. حتى ولو تنازل الغرب عن مطلبه الاقصائي لرئيس الظل في سوريا، فهذا لا يؤدي الى أي شيء.

فالساحة الميدانية لها مواقفها، وطالعة من تضحياتها. ولا يمكن ان تؤول كل هذه «المناورات» الشتّى لا الى اعادة الاسد ولا الى استمرار وجوده في المراحل الانتقالية: فالمعركة الأصلية بينها وبين النظام قامت قبل دخول ايران وداعش والنصرة. فهي المعنية بإيجاد مخارج لا تؤدي الى عودة الأسد إلى حكم سوريا، ولا إلى استبقاء أثر له في المرحلة الانتقالية. فهم متأكدون ان الرئيس السوري، إذا عاد الى السلطة، فسيجردهم من اسلحتهم، ويلقيهم في السجون أو ينظم حملة اغتيالات في قياداتهم. فكيف يقبل هؤلاء كل هذه الاقتراحات التي تُفضي الى انهائهم وهم ضمائر الثورة، واصحابها الشرعيون والاساسيون. هم الشرعية اكتسبوها بدمائهم، وارواحهم، وخسارتهم اهلهم ورفاقهم. إذ كيف يمكن بعد هذه السنوات من الصمود عزلهم، ووضع محاربة الارهاب في أولوية كل الخرائط؟ ونظن انه اذا حيكت مؤامرات من هذا النوع، فلن تؤدي إلى اضعاف هؤلاء، بل الى تحولهم نقطة لقاء الشعب السوري الحر حوله، سواء في رفضهم هذه الحلول أو في استمرارهم في المواجهة.

فالحرب اصلاً أعلنها النظام عليهم، لأنهم أولاً وأخيراً، يقدمون قيماً مختلفة عن «مفاهيم» الاستبداد، والمذهبية، والطائفية، والارهاب. قيم الحرية، وارادة الناس، والديموقراطية، والعروبة وبناء نظام يشارك الناس في وضعه.

وعندما نعرف ان الحرب القائمة بين العالم وداعش (بما فيها إيران والأسد)، هي حرب افكار أولاً وأخيراً، وليست فقط «حرب» افرقاء يتنافسون على السلطة، فان انتصار الاسد ولو جزئياً، هو انتصار لداعش، والمذهبية، والارهاب.

أما الغرب (والعرب والمسلمون المعتدلون)، فسيكون خاسراً اذا ربح الحرب العسكرية ضد داعش، لأنه قد خسر اصلاً حرب «الافكار»: فصعود دونالد ترامب، ومارين لوبان، وسواهما، يعني صعود الافكار الداعشية: العنصرية، وصراع الهويات، والحرية، والتفتح والتعدد بل انتصار لكل المشاريع التوتاليتارية العنصرية خصوصاً البوتينية القائمة على نازية لغوية ارثوذكسية، لا تختلف كثيراً عن طائفية داعش.

ولا بدّ هنا من تكرار ان معركة سوريا، هي معركة افكار ايضا وليست مجرد معركة عسكر، وأن الأسد، هو كداعش، رمز من رموز الاستسلام للخراب الفكري والسياسي. لذا، فاذا حورب داعش واستُبقي الأسد فيعني فوز كل هذه الأوبئة الارهابية الشيطانية.
&