عاطف الغمري
هل يعود العالم إلى سنوات الحرب الباردة، أم أن الظروف الدولية المتغيرة، لا تسمح بعودتها؟
السؤال مطروح في منتديات ومراكز البحوث السياسية والاستراتيجية، لكنه يطرح ومعه إجابات تحمل معاني فيها من التناقض أكثر مما فيها من التوافق، بصورة توضح حالة المعاناة لدى القوى الكبرى، من عدم اليقين بشأن ما تستطيع أن تتوقعه للمستقبل، وهو ما يجعل هذه المناقشات، تبدو وكأنها تدور داخل دائرة مغلقة، يحاول المشاركون فيها البحث عن مخرج من وضع دولي، فقدت فيها هذه القوى قدراتها القديمة على التحكم في زمام صناعة الأحداث الدولية والإقليمية .
وحين تأتي المناقشات إلى ما يتعلق بقدرة أمريكا على الاستمرار في الإمساك بزمام القيادة العالمية، فإنها تتحفظ على إمكان ذلك، وتثير حولها الشكوك .
ومع كثرة المناقشات فقد اخترت أن أتوقف أمام اثنين منها - وهما الأحداث في هذا الموضوع - إحداهما طرحت من مؤسسة سياسية واستراتيجية لها وزنها في بريطانيا، والثانية من أمريكي له تاريخه نظرياً وعملياً في المجال الاستراتيجي .
الأول: التقرير الاستراتيجي السنوي لاستعراض الشؤون العالمية لعام 2014 والصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن .
والتقرير يتحدث عن عودة سياسات الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى الرئيسية، بوصفه ذلك بأنه يعبر عن تطور مثير في الشؤون العالمية في عام 2014 مستشهداً بالتنافس بين روسيا وأوروبا على النفوذ في أوكرانيا، وما أعقبه من تأييد داخل الدول الأوروبية لمزيد من التكامل الوثيق بين دولها خاصة بعد ضم روسيا للقرم وظهور تيارات مؤيدة لروسيا في المناطق الشرقية لها، وكذلك زيادة التوترات بين الصين واليابان، واستخدام قيادات البلدين لغة متشددة قومياً .
واعتبر التقرير أن هذه التطورات تعني فتح الطريق أمام فترة من التحولات الاستراتيجية، والتي ستنعكس آثارها على تعزيز التحديات التي تواجه الولايات المتحدة، في سعيها للمحافظة على نفوذها في العالم، ويبدو أن التقرير يتخذ موقف الدراسات التي بدأت تتوقع عودة سخونة الحرب الباردة .
الرؤية الثانية التي دارت في نفس دائرة هذه المنافسات، قدمها زبجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق للرئيس كارتر، في كتابه: "رؤية استراتيجية أمريكا وأزمة القوة العالمية" . ويشرح التحولات في سياسات الصراع على النفوذ في العالم، من الغرب إلى الشرق، والكيفية التي يمكن لأمريكا أن تتعامل بها مع هذه التحولات وهو يتساءل في كتابه: ما الذي سيحدث إذا هبطت مكانة أمريكا من مركزها في قيادة العالم؟ وهل ستملأ الصين الفراغ الذي تتركه أمريكا بحلول عام 2025؟
ويرفض بريجنسكي التقليل أو المبالغة في إمكان هبوط قوة ونفوذ أمريكا، ويقول إن السياسات العالمية معرضة على المدى الطويل، لأن تصبح غير قابلة لتركيز الهيمنة في يد دولة واحدة . وبالرغم من أن أمريكا لا تزال متفوقة، وتتمتع بمكونات القوة التقليدية عسكرياً، واقتصادياً، ومالياً، وتكنولوجياً، ولديها أكبر اقتصاد قومي، وهي الأكثر تقدماً تكنولوجياً، وميزانيتها العسكرية تفوق ميزانيات الدول الأخرى مجتمعة، وقواتها المسلحة قادرة على التحرك السريع في الخارج، إلا أن هذه الميزات التي تعد حالياً حقيقة في الحياة الدولية - قد لا تدوم لمدى طويل .
ولهذا فإن مصداقيتها، واستمرارية مركزها القيادي، يواجهان بتساؤلات متزايدة عالمياً، نتيجة تعقيدات التحديات التي تتعرض لها داخلياً وخارجياً .
وبحثاً عن مخرج من هذا المأزق، يقترح بريجنسكي السعي لإقامة نظام دولي آمن، وإنشاء إطار للغرب الكبير Greater West يضم تركيا، وروسيا، مع أمريكا وأوروبا، في تحالف سياسي كبير، يستند إلى قيم الغرب، ويمتد من ساحل الباسفيك، وكندا، عبر أمريكا الشمالية، والمحيط الأطلسي، ويضم دول الاتحاد الأوروبي، وأوكرانيا، ويمر عبر روسيا إلى ميناء فلاديفستوك التاريخي .
يلاحظ أن رؤية بريجنسكي تنبع من إحساس بالورطة التي تواجهها أمريكا، بعد زمن حمل اسم القرن الأمريكي . لأن رؤيته تحمل في ثناياها أسباب ضعفها، كما أنها تخالف رؤية كثيرين من خبراء الاستراتيجية في بلاده، الذين يرون أن صناع القرار في واشنطن سيواجهون في السنوات القليلة المقبلة، بحقائق جديدة، نتيجة تحولات تجري بالفعل في النظام العالمي . وأنها سوف تنهي عصر تمتع أمريكا بقيادة العالم، وقدرتها على صياغة الأوضاع الدولية والإقليمية .
وعلى ذلك فإن بريجنسكي يتجاهل تقارير لمؤسسات سيادية أمريكية، منها البنتاغون ووكالات المخابرات،التي تقر بأن الصين ستحتل عالمياً، مركزاً متعادلاً مع القوة الأمريكية بحلول عام ،2020 وأن القوة النسبية للولايات المتحدة قد تراجعت بالفعل .
ثم إن صعود روسيا، واستعادتها مكانتها كقوة عالمية، في أجواء من بعث الروح القومية فيها أصبح أمراً يهتم به الخبراء، وبالتالي فإن اقتراح إدخالها في إطار تحالف مع الغرب، وحسب القيم الغربية، هو مسألة تجاوزتها التحولات التي تجرى الآن بإيقاع متدفق .
وإذا كانت الرؤية الاستراتيجية لبريجنسكي، تفتقد لمقومات التواؤم مع العصر، وما يجرى فيه، فإن تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، الذي جاء مختصراً، قد احتوى خطوطاً رئيسية في صورة مكثفة ومركزة، وكلاهما قد تناول موضوع عودة الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى، والتحفظ على إمكان بقاء القيادة العالمية في يد الولايات المتحدة .
على هذا الأساس، فإن مخاطر العودة إلى الصراع على النفوذ، على ضوء ظهور مخاطر جديدة تهدد الأمن القومي لكليهما، ربما تدفعهما إلى البحث عن نوع من التوافق، الذي يحول دون عودة الحرب الباردة .
&
التعليقات