&مجدى يوسف

&

&

&

هل كان ظهور الداعشية فى عام 2014 مجرد مصادفة تاريخية ؟ أم أنه مرتبط بتراث تاريخى على الرغم من اختلاف السياقات المجتمعية الحالية التى تلعب دورا أساسيا فى «صياغة» الأصول التاريخية لتلك الظاهرة ؟

&

&


منذ مائة عام على وجه التمام، فى 1914 ، أطلق الخليفة العثمانى فى اسطانبول دعوته لحث المسلمين فى كل أنحاء المعمورة على الجهاد ضد «أعداء الله»، على إثر تحالفه مع ألمانيا ، ومن ثم النمسا ضد انجلترا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى .

&

ولم تكن هذه السابقة التاريخية قد أقحم فيها الدين الحنيف فى السياسة وحسب ، على الرغم من أن ألمانيا باعتبارها حليف الخليفة العثمانى آنذاك كانت هى نفسها «كافرة» بالمعيار نفسه الذى دعا الخليفة للجهاد على أساسه. إنما كانت دعوة الجهاد باسم الدين الحنيف من صنع مستشرقين ألمان صاغوها لتعضيد مصالح الدولة الألمانية فى ذلك الوقت ضد أعدائها التقليديين فى أوربا : انجلترا وفرنسا. وقد تزعم هذه «التخريجة» من الدين الحنيف المستشرق الألمانى «ماكس فون أوبنهايم»، الذى يدل لقبه «فون» على أصوله الإقطاعية الرجعية فى بلاده. فقد ذهب بـ«تفسيره» المجتزئ للدين الإسلامى إلى أن «الجهاد المقدس» هو غايته المثلى ، ومن ثم يتعين على المسلم «الحق» أن يأخذ به حتى «يكتمل دينه». ولم تأخذ الدولة الألمانية بتفسيره هذا وحسب، وإنما فعل بالمثل «خليفة الإسلام» آنذاك فى تركيا المتحالفة مع الألمان ، على الرغم من أن صاحب هذه «الفتوى» ذاتها كان من «الكفار» (راجع مقالنا فى «المصرى اليوم» بتاريخ 19 مارس 2013 «جهاد من صنع ألمانيا ، وبيت الطاعة من بريطانيا»).

&

وهنا لنا وقفة لتحليل نهج الاستشراق الألمانى التقليدى فى «درس» الدين الحنيف . فهو على العكس من المنظور الاجتماعى الذى تميز به على سبيل المثال مدخل كل من «جاك بيرك» و«ماكسيم رودنسون» الفرنسيين فى محاولة «فهم» أصول الدعوة الإسلامية من خلال سياقاتها، إذ بالاستشراق الألمانى المحافظ بطبيعته يقتصر على القراءة الحرفية للنص المقدس منزوعا عن سياقاته التى نزل فيها ، منظورا إليه من خلال «نموذج مجرد» تماما يصطنع لتفسيره على نحو مقولب يسعى للترويج له على أنه المثل «الأعلى» للإسلام «الخالص». وهو يمضى على النهج نفسه الذى مضى عليه النازى فى دعوته العنصرية للنموذج «الآرى الخالص» الذى سعى به لاستعمار العالم وسحق الشعوب الأخرى . وهو ما حرص على كشفه الكاتب المسرحى الألمانى «برتولت برخت» عن طريق عرضه على خشبة المسرح عمليات قولبة الإنسان حسب «تصورات» نمطية معينة ، وإعادة تشكيله تبعا لها ، كما يعاد تشكيل الآلة لتخدم غرضا معينا . أما الصور التى صار يروج لها هذا النموذج الاستشراقى للحث على «الاستشهاد من أجل الله» حيث تنتظر «الشهيد» حياة «النعيم» فى الآخرة ، فيسعى بها للتغرير بالباحثين عن «معنى» ما لحياتهم ولما يتصورون أنه «صحيح الدين»، غير واعين بما تقوم عليه تلك الدعوة من تضليل بهم وسوقهم لخدمة أغراض مناقضة تماما لرسالة الدين الحنيف . وتحرص دراسات علم الإشارة (السيميولوجيا) المعاصرة منذ ستينيات القرن الماضى على كشف التناقض فى مثل تلك الدعوات المضللة من خلال تحليل دقيق لنصوصها .

&

إلا أن تاريخنا الفكرى السابق على ذلك كان زاخرا برفض الدعوة لإقحام الدين فى السياسة ردا على الأصوات المنادية بعودة الخلافة بعد أن قضى عليها فى 1924 ، وذلك - مثلا- فى كتاب على عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم ( 1925 ) الذى أثار آنذاك ضجة كبرى بسبب طموح الملك فؤاد لأن يرث الخلافة. وقد اشتغلت برصانة فى السنوات الأخيرة على كتاب على عبد الرازق صديقتنا الدكتورة سعاد تاج السر على، الأستاذة فى جامعة ولاية أريزونا بالولايات المتحدة.

&

أقامت ألمانيا بالفعل أثناء الحرب العالمية الأولى فى إحدى ضواحى برلين معسكرا دعته «معسكر الهلال»، قامت فيه بتجميع المسلمين الذين أسرهم الألمان أو الأتراك بينما كانوا يحاربون فى صفوف الجيوش الانجليزية والفرنسية أثناء الحرب العالمية الأولى، ساعية لأن تقولب وعيهم الدينى على أساس النموذج الذى وضعه المستشرق (الكافر) «ماكس فون أوبنهايم» لما يدعوه «الإسلام النموذجى» القائم على دعوة الجهاد . ويشير الباحث أحمد عز الدين إلى أن وظيفة ذلك المعسكر ، لم تكن لتدريب هؤلاء الأسرى ، الذين يقدر عددهم بأربعة آلاف ، على فنون القتال ، فقد كان لهم باع فى هذا المجال من خلال تجاربهم الميدانية السابقة . وإنما أن يقام لهم عمليات «غسيل مخ» تجعلهم يضعون الجهاد غاية أولى فى دعوة الإسلام الحنيف ، ثم يطلقون بعدها لبلادهم لنشر «دعوة الجهاد» هناك ضد القوات المناوئة لألمانيا وتركيا آنذاك .

&

فهل من المستبعد أن تكون المخابرات الأمريكية قد استوحت تجربة معسكر الهلال الألمانى لـ«تهدى» نموذجه لشعوبنا بعد مائة عام من قيامه من خلال ما دأبت على القيام به من مناورات حربية على مدى عدة عقود فى صحراء أريزونا نظرا لتشابهها مع جغرافيا الشرق الأوسط ؟ ذلك النموذج الذى قام على تصميم استشراقى «كافر» سعى لتوظيف الدين الحنيف فى خدمة مآرب سياسية هى أبعد ما تكون عنه ، ومن ثم العمل على قولبة وعى الدواعش الجدد من خلال تصور اختزالى لرسالة الإسلام الحقيقية كى يساعدوا على «صياغة» شرق أوسط »جديد« يقوم على النظرية الأمريكية الداعية «للفوضى الخلاقة»، على نحو ما كانت توظف من أجله «النظرية الآرية» حتى عام 1945 ؟.
&