عبد الحسين شعبان
هل الصراع بين طهران وواشنطن سببه الملف النووي الإيراني؟ وهل سينتهي هذا الصراع لمجرد التوقيع على اتفاق بين إيران والدول الخمس الكبرى + 1؟ أم ثمة أسباب أكثر عمقاً وشمولاً هي التي تقف خلف هذا الصراع وتغذّيه، وبالتالي ستؤدي إلى استمراره، حتى وإن اتخذ أشكالاً جديدة؟
واشنطن تدرك حجم المصالح الإيرانية في المنطقة، وهي مصالح ارتفع منسوبها منذ الثورة الإيرانية العام ،1979 خصوصاً بعد الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 واتّسعت رقعتها بعد تعرّض العراق للحصار الدولي وانكفاء دوره، لاسيّما بعد غزو الكويت، ثم وقوعه تحت الاحتلال العام 2003 .
اليوم، وبعد دخول اليمن على الخط، اتخذ الصراع طابعاً أكثر مباشرة، فقد شعر مجلس التعاون الخليجي بالخطر، وهو ما دعاه لتأليف تحالف عربي- إقليمي على جناح السرعة، مثلما ارتفع قلق الغرب وحلفائه في المنطقة، خصوصاً في الخشية من التمدّد الإيراني باتجاه الهيمنة على باب المندب الموقع الاستراتيجي الحيوي، الأمر الذي دفع مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ إجراءات من شأنها الحدّ من تأثيره، عبر تدخّل مباشر لإزاحة الحوثيين "حلفاء إيران" بعد أن هيمنوا على السلطة، واستولوا على المواقع الحيوية وبعض المرافق الأمنية والعسكرية، وهكذا بدأت "عاصفة الحزم" التي أعلنت الولايات المتحدة والرئيس أوباما عن تأييدها .
إن واشنطن لا تنظر إلى الملف النووي الإيراني الذي تم توقيع اتفاقية إطار بشأنه، بمعزل عن بعض القضايا ذات الأبعاد الإقليمية، خصوصاً في موضوع حماية أمن "إسرائيل" كما تبرّر، إضافة إلى المصالح النفطية والمواقع الجيوبوليتيكية، التي كانت أركاناً حيوية في الاستراتيجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولحدّ الآن، بما فيها في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي .
واشنطن كذلك تنظر بقلق إلى النفوذ الإيراني في العراق، خصوصاً بعد أن اضطرّت إلى الانسحاب منه في نهاية العام ،2011 لكنها عادت إليه لمواجهة خطر داهم، وهو تنظيم "داعش"، فأرسلت بضع مئات كمستشارين وجهّزت طاقماً للطيران الحربي لمهاجمة الإرهاب، وأسّست تحالفاً دولياً من 60 دولة، وهكذا أصبحت هي وطهران على مسافة تكاد تكون واحدة من محاربة "داعش" والجماعات الإرهابية، ليس في العراق فحسب، بل إن واشنطن دعت الجماعات المسلحة إلى مواجهة "داعش" في إطار هدنة غير معلنة مع النظام السوري، علماً بأن الدعم الإيراني لسوريا كان ولا يزال يشكّل محور سياستها الشرقية أوسطية، إضافة إلى حلفائها، ومنهم حزب الله اللبناني، وكذلك دعمها لحماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين .
الوجه الآخر للصراع هو الموقف من "إسرائيل" ودورها، خصوصاً أن إيران أعلنت أكثر من مرّة أن وجودها غير مقبول، بل يشكّل استفزازاً لمشاعر المسلمين، لاسيّما وهي تمارس العدوان تلو العدوان، وهو ما حصل إزاء غزة في عملية "الرصاص المصبوب" العام ،2008 ومطلع العام 2009 وعملية "عمود السحاب" في العام ،2012 وعملية "الجرف الصامد" في العام ،2014 إضافة إلى حصار غزة منذ العام 2007 وعدم تقديم " إسرائيل" أية تنازلات بشأن حقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، وحق عودة اللاجئين وتعويضهم وإقامة الدولة الوطنية المستقلة، بل إنها تستمر في سياسة الاستيطان والتهويد بما فيه للمناطق المقدسة، ولاسيّما للقدس الشريف عاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة .
المفاوضات الماراثونية حول الملف النووي الإيراني التي استمرت ما يزيد على 18 شهراً والتي امتدّ القلق الدولي بشأنها نحو 12 عاماً، تفترض شروطاً متبادلة تقضي بفرض رقابة دولية صارمة على البرنامج النووي الإيراني، مقابل رفع العقوبات عن إيران، على أن يستكمل اتفاق الإطار، باتفاقية شاملة وتفصيلية في 30 يونيو/ حزيران المقبل 2015 .
دول مجلس التعاون الخليجي والعديد من الدول العربية النافذة، ومنها مصر والمغرب ودول إسلامية أخرى مثل الباكستان، لا تنظر إلى الملف النووي الإيراني، بعيداً عن قوة إيران الإقليمية، باعتبارها دولة محورية توسعية في المنطقة، بالسلاح النووي ومن دونه، فقد أصبح لها نفوذ في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين (غزة) ومؤخراً في اليمن، وطموحها لا تحدّه حدود، لدرجة أن كان هناك من صرّح بغرور بأن بغداد هي عاصمة الإمبراطورية، على نحو استفزازي، علماً بأن مثل هذا الرأي كان قد تبلور منذ غزو العراق واحتلاله العام ،2003 حيث اعتبرت بغداد خط الدفاع الأول، ولا ينبغي أن تمتدّ الحرب عبر الحدود العراقية - الإيرانية، بل لا بدّ لها أن تبقى خارج الجغرافية الإيرانية، بما يضمن أمن إيران وسلامتها .
وإذا كانت إيران قد تنازلت بخصوص الملف النووي وأبدت استعدادها لقبول الرقابة الدولية وتصفية منشآتها، فإنها تشدّدت في موضوع إلغاء العقوبات الدولية، خصوصاً الأمريكية والأوروبية لما سبّبته من إرهاق مادي ومعنوي لها، اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، فضلاً عن تأثيره في الحدّ من طموحاتها السياسية الواسعة . وعلى الرغم من اتفاق لوزان فما زالت هناك بعض النقاط مثار اختلاف أو جدل قد تتجدّد عند التحضير لاتفاق يونيو/ حزيران المقبل، خصوصاً السقف الزمني للاتفاق والطريقة التي سيتم فيها إلغاء العقوبات، إضافة إلى السياقات التي ستتم فيها إعادة العقوبات في حال إخلال إيران بالتزاماتها .
وبخصوص رفع العقوبات، فإن الدول الغربية لا تحبّذ الرفع الفوري والشامل، بل تريد برنامجاً طويل الأمد، يتم فيه اتخاذ خطوات تدريجية على مدى يصل إلى 15 عاماً، مع استمرار إمكانية إعادتها في حال خرق إيران لتعهداتها، كما تسعى إلى اتخاذ إجراءات رادعة كتحصيل حاصل ومن دون الرجوع إلى مجلس الأمن الدولي باعتباره المرجعية الدولية لذلك . أما إيران فهي تريد سقفاً واطئاً بحيث تستطيع أن تتخلّص من ثقل العقوبات في مدّة أقصاها خمس سنوات، وتعارض اتخاذ عقوبات بحقها من دون العودة إلى إصدار قرارات دولية جديدة من جانب مجلس الأمن في حال إخلالها بتعهداتها .
وإذا افترضنا إمكانية التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق في يونيو/ حزيران المقبل بتنازلات متبادلة، فإن المشكلة سوف لا تنتهي لأنها تتعلّق بالنهج السياسي الإيراني والمخاوف الخليجية منه، إضافة إلى مخاوف العديد من البلدان العربية، فضلاً عن رفض "إسرائيل" لأي اتفاق مع إيران وتحريضها ضده، وهو ما خاطب به رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وقد حاول الأخير طمأنة "إسرائيل" على الرغم من اعتبار توقيع مثل هذا الاتفاق هو أفضل الحلول الممكنة، ولكن من جهة أخرى لفت الانتباه إلى المناورات الإيرانية وإلى السياسة الإيرانية في المنطقة، لاسيّما تعاظم قدراتها في مجالات عدة سياسية وعسكرية .
الدول الغربية قد تلجأ إلى أبعد من ذلك عبر حرب ناعمة، من خلال تعزيز جبهة أعداء إيران وإضعاف جبهة حلفائها، إضافة إلى إشغالها بالمزيد من المشكلات الداخلية لدرجة الإغراق، خصوصاً إذا ما استمرّ الحصار بشكل عام حتى إن تم رفعه جزئياً، إذْ أن تأثيره سيكون متراكماً وقوياً مع مرور الأيام، كما حصل في العراق حيث تم تدمير النسيج الاجتماعي وإضعاف القاعدة الاجتماعية للنظام واختراقه بالتدريج، وازدياد ظواهر الفساد والتطرّف والتعصّب والعنف ومعدّلات الجريمة، الأمر الذي سهّل إطاحته، حيث سقط مثل التفاحة الناضجة في الأحضان .
قد يكون من السابق لأوانه اعتبار الاتفاق قد أنجز حتى إنْ كان الحجر الأساس فيه قد تم وضعه، لكن ثمة هواجس من الطرفين إزاء تنفيذه، يضاف إلى ذلك: ماذا ستتمخض عنه حرب اليمن، وكيف ستتصرف إيران بعد ذلك إزاء مصالحها في هذا الجزء من العالم العربي، فيما إذا حُسمت الحرب لمصلحة أعدائها أو لغير مصلحة حلفائها . ولا بدّ هنا من أخذ المؤشر الإقليمي المشفوع بالحضور التركي، سواءً على مستوى العالم العربي بشكل عام، وإزاء دول الجوار العربي بشكل خاص، وهو ما حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لفت الانتباه إليه خلال زيارته الأخيرة لطهران، والأمر له علاقة بتوازن المصالح وبتطور الصراع مع التنظيمات الإرهابية، سواء كانت "القاعدة" بصيغتها الأولى أو ربيبتها "داعش" أو "جبهة النصرة" إحدى وليداتها وغيرها .
كما يقتضي الأمر حساب العامل الدولي غير الغربي لدولتين محورتين وعضوين دائمي العضوية في مجلس الأمن الدولي، ونعني بهما روسيا والصين، بحكم علاقاتهما الخاصة مع العديد من دول المنطقة، سواء بالاتفاق على موضوع الملف النووي، أو بتمديد المفاوضات، إضافة إلى التحالفات الجديدة التي قد تنشأ في المنطقة، خصوصاً بعد حرب اليمن بسيناريوهاتها المختلفة، الأمر الذي سيضع مسألة التمدّد الإقليمي على بساط البحث، فلم يعد مقبولاً أو ممكناً استمرار الوضع إلى ما كان عليه قبل الاتفاق وحرب اليمن .
التعليقات