عبدالله بن بجاد العتيبي

الدولة تنظر لطوائفها بمنظارٍ واحدٍ هو منظار المواطنة، وتاريخ الدولة السعودية مع مواطنيها من الطوائف والمذاهب كـ«شيعة الشرقية» و«نخاولة المدينة» و«إسماعيلية نجران» وبعض «الزيدية»، إنما يتم بمقياسٍ واحدٍ مع بقية مكونات الدولة، ويصح هذا على «صوفية الحجاز» طرقيًا وعلى «المذاهب الفقهية» المتعددة.


في مقطع فيديو لولي العهد الأمير محمد بن نايف، تحدث مع أحد المواطنين المصدومين بتفجير «القديح» وحذره من أن أي محاولات للقيام بدور الدولة ستواجه بالمحاسبة، وقال له: «الدولة ستبقى دولةً» وهذا بالفعل منطق الدولة وأي تهاونٍ في ذلك يعني تضعضعها، وهو ما لا يمكن أن يقبل به عاقلٌ تحت أي ظرفٍ وأي تبريرٍ.


والأمير محمد في هذا يسير على أمر الملك سلمان، وقبله الملك عبد الله اللذين تطرقا لهذه المسألة بوضوحٍ، بل وقبلهما نهج الملك المؤسس، رحمه الله، فالملك عبد العزيز قال لأمين الريحاني: «هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفًا من أهل الشيعة وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد. إلا أننا نسألهم ألا يكثروا من المظاهرات في احتفالاتهم»، بل وفي موضوعٍ أكثر تحديدًا، فإن الملك عبد العزيز ولمّا جاءه مرةً بعض المشايخ برسالة في الردّ على الشيعة يريدون السماح بنشرها، أخذها منهم، ثمّ في اليوم الآخر «سلّمهم الرسالة، مليئةً بالحذف والإثبات، بخطه وقلمه، وقال لهم: إنّكم أصحاب دينٍ ولستم أصحاب سياسةٍ».


وتفجير «مسجد العنود» في الدمام الذي قام به إرهابي داعشي بعد أسبوع واحدٍ من «تفجير القديح» وبذات الطريقة؛ أي الهجوم الانتحاري على مساجد الله وانتهاك حرمتها بقتل الركع السجود، يحتاج فعلاً للإسراع في إصدار تشريعات تجرّم الخطابات الطائفية إضافة للتشريعات القائمة على أن يصاحبها تنفيذٌ سريعٌ للأحكام القضائية الصادرة بحق الإرهابيين والمحرضين على الإرهاب سنة وشيعة لتعزيز هيبة الدولة في وجه المخطط التخريبي بنشر الاحتراب الطائفي في السعودية.


هذا النهج الذي يعتمد على نشر الصراع الطائفي لتفتيت وحدة البلدان من داخلها هو نهجٌ إيراني معتمدٌ ومجرّب في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهو يقوم على التحالف مع حركات العنف الديني السنية والشيعية على حدٍ سواء، وهذا البعد الإقليمي للصراع السياسي يجب أن يكون حاضرًا كأولويةٍ لدى أي قارئٍ للمشهد في السعودية.


بعد هذا يأتي الحديث عن غلاة الطائفيين ومحرضي الإرهاب من الجهتين سنيًا وشيعيًا، فثمة قنواتٌ فضائيةٌ ومواقع إلكترونية وبعض الخطباء والمدرسين وغيرهم، وكذلك معرفات بالأسماء الصريحة والمستعارة في مواقع التواصل الاجتماعي تنفخ في كير الفتنة الطائفية الداخلية، ويجب على الدولة أن تحمي المجتمع من شرورها، بحذف هذه القنوات من الأقمار الصناعية العربية كـ«عرب سات» و«نايل سات» وحجب تلك المواقع وملاحقة ناشري الفتنة أيًا كانت مواقعهم حماية للحمة الوطنية وفرضًا لهيبة الدولة.


أحد أهم الحلول يكمن في تقريب الخطاب الديني ليتواءم مع العصر ومع الدولة ومصالحها العليا في الوحدة والسيادة والاستقرار والأمن، التي هي جزءٌ من خطابٍ تأويلي موجودٍ في الأصل، وكما ردّ الملك عبد العزيز خطاب الغلاة الطائفيين يجب أن تتبنى الدولة هذا التجديد المطلوب على أن يكون شاملاً ومتماسكًا وبعيدًا عن أي عنفٍ أو احترابٍ.


ولكن أين يخطئ بعض شيعة السعودية؟ وللأسف أن يتم الحديث عن الشؤون السياسية بلغة طائفية دفعت إليها الأحداث، إنهم، مع كل التعاطف مع مصابهم الذي سبقتهم إليه كل شرائح المجتمع، يخطئون حين تترسخ لديهم نظرةٌ بأن الدولة لا تحميهم وأنهم سيحمون أنفسهم بأنفسهم، وهذا الكلام خطيرٌ وهو بالضبط خطة إيران وخطابها لتفتيت الوحدة الوطنية، ومن ذلك رفع شعاراتٍ طائفية تتحدث عن «الحشد الشعبي» و«لبيك يا حسين» ونحوها من الشعارات المستوحاة من الطائفية القاتلة في العراق.


كما يخطئون حين يحسبون أن «داعش» أو «القاعدة» تعاديهم وحدهم ولا تعادي الوطن والمواطنين، ومع كل الجزم والحزم بالوقوف معهم، فإن الصورة الأكبر توضح أنهم جزء من المشهد المؤلم والمصاب الجلل وسيتحمل معهم إخوانهم في الوطن كل الآلام.


ولكن، هل هذا البعض يمثل غالبية الشيعة في السعودية؟ بالتأكيد لا، كما أن أعمال «القاعدة» و«داعش» لا تمثل بقية المواطنين السعوديين، إن إيران و«القاعدة» و«داعش» تتخذ السعودية عدوًا أولاً لكل مخططاتها وجرائمها، وهو ما يجمعهم على ما يبدو تناقضًا لدى من ليس باحثًا ومتابعًا للأحداث والخطابات والسياسات الكبرى في المنطقة.


إن تاريخ شيعة السعودية تاريخٌ مشرفٌ في خدمة وطنهم ودولتهم، فقد كان منهم ولم يزل رجالٌ أكفاء ونخبٌ تعي مسؤوليتها، سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا وغيرها، وهم مواطنون يدينون لدولتهم بالولاء التام، ومن هنا فهم مواطنون بالدرجة الأولى وانتماؤهم الطائفي أو المذهبي ليس له أي علاقةٍ بمواطنتهم، ومن شذّ من السنة أو الشيعة يعامل بقدر شذوذه وجرمه.


أمرٌ آخر جديرٌ بإعادة النظر فيه، وهو مواقع التواصل الاجتماعي ودورها لا في التحريض فحسب، بل وفي التخطيط والتجنيد والتنفيذ للعمليات الإرهابية، فهي كما يعلم الجميع أصبحت ساحةً يسهل على تنظيم داعش أن يستغلها لتنفيذ جرائمه، ومع الاعتراف بأننا لن نستطيع محاربة التطورات التكنولوجية في العالم، وكذلك الاعتراف بأن ثمة فوائد أمنية في كشف بعض الجرائم قبل وقوعها من خلال تلك المواقع، إلا أن هذا لا يمنع من بذل الجهد، إما بالتعاون من الشركات المالكة لتلك المواقع وتشجيعها على بذل مزيد من الإبداع في خلق طرائق لمنع الأنشطة الإرهابية، وإما بخلق مواقع بديلةٍ كما صنعت الصين مثلاً، فأمننا أولويةٌ.


الغالبية العظمى من البشر لا تغير أديانها ولا عقائدها ولا مذاهبها، بل تموت على ما ولدت عليه. ومن هنا، فإن كل الجهود التي تبذل لتغيير طائفةٍ أو مذهبٍ لن تمنى بالنجاح، لا من الأكثرية ولا من الأقلية، والتاريخ الإنساني برمّته شاهدٌ. إذن، فالمطلوب هو التركيز على الجوامع الوطنية وخلق مساحة من التسامح يتعايش فيها الجميع مع بعضهم البعض.


بشكل واقعي، فإنه ستبقى لدى كل الطوائف خطاباتٌ ترفض الطائفة الأخرى مهما ساد التسامح، ولكن المهم ألا يتم شيءٌ من ذلك عبر مؤسسات الدولة التي يجب ألا يكون لها أي تدخلٍ في تلك الشؤون أو أي علاقةٍ بها، وبذلك تبقى منزويةً لمن يطلبها ويتخصص فيها.


أخيرًا، فإن من أهم مهمات الدولة الحديثة فرض سيادتها على أراضيها وحماية حدودها وضمان استقرارها وأمانها وبسط هيبتها في ربوع الوطن وحماية مواطنيها ورعاية اللحمة الوطنية، وهذا ما تصنعه السعودية.