&رنا نجار
&
&
&
&
&
&
&
قبل الثورة وما بعد الثورة، جملة صارت محطّ كلام في تونس، تسمعها على مدار النقاشات والحوارات التي تدور بين التونسيين وخصوصاً تلك المتعلقة بحرية التعبير والصحافة. صحيح أن المواطنين مندهشون بحرية التعبير في البلاد وأهمية الحديث بصوت عال في أي مقهى أو في الشارع عن أي موضوع سياسي وانتقاد السلطة أو الرئيس. صحيح أن البلاد تعيش على وقع الإضرابات المتتالية في القطاعات العامة والخاصة. وصحيح أن تونس الخضراء تراها شاحبة ومنهكة بعد مخاض «14 جانفي» الصعب، وما ينتاب البلاد من أزمات اقتصادية وسياسية ترافق عادة مراحل الانتقال السياسي. ولكن، الناس متفائلون بغد أفضل، إلا الصحافيين الذين تعاين حزناً دفيناً ليس في عيونهم فحسب، بل في مظهرهم الخارجي وفي تحركاتهم وفي كتاباتهم وحواراتهم. فالصحافة المكتوبة التونسية التي خنقها الرئيس السابق زين العابدين بن علي وأفقر كتابها وكبّل أقلامهم، تبدو كمن تلقى صفعة قوية ولا يزال تحت الصدمة، بعد الثورة. تبدو الصحافة كأنها لم تغتسل منذ زمن «14 جانفي 2011»...
أربع سنوات مرّت على ذوبان الجليد، لكن المرج لم يخضرّ بعد على صفحات الجرائد. فالجليد الذي راكمه نظام بن علي على مدى 40 سنة، كشفت مساوئه الثورة التي كان قبلها همّ الصحافي أن يحق له الإدلاء برأيه فقط، وعندما أتيح له ذلك بدأت تظهر على السطح مشكلات القطاع الذي طوّقه الفساد بدءاً من تعيينات دخلاء في مواقع القرار، وتسرّب صحافيين إلى المهنة لخدمة أجهزة الاستخبارات. فلم تكن البيئة صالحة لنوع من الإصلاح أو التغيير الهيكلي، أو لنقُلْ كان القطاع مخدراً ويعاني ضيق الحال وكمّ الأفواه. هذه المشكلات هي جزء من جملة مشكلات تعانيها الصحافة المكتوبة اليوم في تونس، أهمها اقتصادية. هذا عدا عن مسالك التوزيع غير المنظمة والتي كانت تحتكرها مؤسسة مسعود الدعداع منذ ستين سنة. إلا أن مديري الصحف أنشأوا بعد الثورة مؤسسة جديدة لتوزيع صحفهم، تنافس تلك القديمة التي كانت مثل العصا الحارقة التي تسلط على أصحاب الصحف الذين يرفضون الخضوع لإملاءات النظام. وقد شهدت تونس، أخيراً، اضطراباً وفوضى عارمة في توزيع الصحف التي لم تصل إلى عدد كبير من المواطنين في مناطق عدة، إذ منعت شركة الدعداع توزيع خمس صحف كبرى في البلاد. وكان الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي تعهد ضمان حرية الصحافة والتعبير والحق في التظاهر، في الأول من أيار (مايو) الجاري، في حين يبقى مصير صحافيين مثل سفيان الشواربي غير معروف ويحمّل زملاؤه الدولة مسؤولية إعادته من ليبيا حيث خطفته مجموعات إرهابية أثناء إجراء تحقيق صحافي وزميل له خطف معه أيضاً.
تقول حياة السايب مساعدة رئيس تحرير جريدة الصباح لـ «الحياة»، إن حرية التعبير وحرية الصحافة بشكل خاص تعتبران من أبرز مكاسب الثورة التونسية. وتضيف رئيسة جمعية «مبدعات عربيات» التي شاركت في تنظيم مؤتمر «الصحافة الورقية ورهانات المستقبل بين الورقي والالكتروني» بالتعاون مع جمعية «علوم وتراث» في مدينة سوسة: «زالت الرقابة وتخلص الإعلاميون من القيود المسلطة عليهم، كما أصبح المشهد الإعلامي متعدداً، فقد ظهر بعد الثورة العديد من العناوين الصحافية والإذاعات الخاصة والتلفزيونات، بعدما كانت الساحة فقيرة ومحكومة بجملة من الموانع تفرضها السلطة وتتحصّن بها ضد النقد و «أخطار» حرية التعبير».
المشهد
وهناك في تونس اليوم 256 دورية بين صحف يومية وأسبوعية ونصف شهرية وشهرية وفصلية. وهناك مطبوعات ذات طابع مؤسساتي، ووكالة أنباء رسمية واحدة، إضافة إلى وكالة الاتصال الخارجي وهي الفاعل الرئيسي في المشهد الإعلامي وتحتكر الإعلانات العمومية وتتولى توزيعها على المطبوعات. وقد زاد عدد مواقع الصحافة الالكترونية بعد الثورة كالنار في الهشيم، وكانت قبل الثورة غالبيتها اقتصادية، مع غياب أي إطار قانوني لتنظيم هذه الصحافة الالكترونية التي باتت وفق كثير من الصحافيين التونسيين ممن حضروا المؤتمر تهدد الصحافة الورقية.
استفادت الصحافة التونسية، وفق حياة السايب التي تعتبر من أوليات النساء اللواتي تولين منصباً عالياً في الصحافة المكتوبة، من مناخ الحرية الذي تيسر بعد «14 جانفي» 2011، لكن تبين فيما بعد أن الصورة ليست وردية تماماً: «أوّلاً، حدث انفلات كبير باسم حرية التعبير، وثانياً تبين أن الإعلام بمختلف مكوناته يشكو من العديد من الهنات، من بينها مثلاً قلة المهنية وضعف الأداء، خاصة في كل ما يتعلق بالتعامل مع القضايا الخطيرة كقضايا الإرهاب والانفلات الأمني والحراك الاجتماعي. وثالثاً تسلل العديد من الدخلاء والمتحرّرين من أخلاقيات المهنة إلى مواقع القيادة في عدد من المؤسسات الإعلامية. كما أن الحكومات المتعاقبة بالبلاد قامت بتعيينات غير مدروسة على رأس المؤسسات الإعلامية العامة، ممّا ساهم بدوره في الإضرار بالمشهد الإعلامي، وذلك رغم تصدي أبناء المهنة لمحاولات أصحاب المصالح ولوبيّات المال الفاسد تطويع الإعلام وتوظيفه لأجندات خاصة». لكن المعركة مسامرة، كما تؤكد السايب.
&
الفاعلون الجدد
وبما أن التونسيين الثوار فقدوا الثقة بوسائل الإعلام الكلاسيكية (تلفزيون وإذاعة وراديو وجريدة) الخاصة منها والعامة، فقد توجّهوا إلى الإعلام البديل قبيل الثورة وخلالها. وهنا ظهر «فاعلون جدد غيّروا المعادلة»، وفق محمد معمري الباحث في علوم الإعلام والاتصال ورئيس تحرير في الإذاعة التونسية. ويرى معمري أن «الثورة التونسية كانت حدثاً مفصلياً في تحوّل الإعلام. فنقل أحداثها لم يأت عبر وسائلنا المعتادة، بل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً فايسبوك، والمدوّنين الذين قاموا بجهود جبارة قبيل الثورة وخلالها، ومن خلال الناشطين الالكترونيين. وذلك أدى إلى تغيير المشهد التواصلي، إذ أصبح الكل يبث للكل بعدما كان المحتكر للمعلومة متحكّماً في البث للجمهور المتلقي».
هل يمكن القول إن الثورة التونسية هي التي ساهمت في تهديد الصحافة المكتوبة وليس المواقع الالكترونية، كما يحلّل البعض؟ يجيب المعمري: «شكّل ظهور فاعلين جدد تهديداً لهوية الصحافي الباث للمعلومة، مع ظهور الصحافي المواطن. وهنا ظهر نوع من الصحافة الهجينة التي يتجاور فيها الصحافي المحترف والمواطن الصحافي، وبالتالي ظهرت ميديا جديدة». ويرى المعمري أن هذه البيئة الإعلامية الجديدة «تضررت منها الصحافة الورقية، رغم الانفجار الذي شهدته بعد الثورة مباشرة، وهو ما أدى إلى إغلاق عدد من الصحف الورقية بعد مدة وجيزة من بعثها».
&
مشكلات اقتصادية
يشكو العديد من رؤساء التحرير وأصحاب الصحف من المردود المادي لهذه الصحف. ويقول مدير المركز الأفريقي لتدريب الصحافيين والاتصاليين عبدالكريم الحمزاوي، إن هناك 100 ألف تونسي فقط يقتنون صحفاً ورقية أسبوعياً في تونس كلها التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، وهو رقم يوضح أن الصحف تعاني ضعفاً في مبيعاتها التي كانت تعوّل عليها للاستمرار. ويشير المعمري إلى تراجع سوق الإعلانات بعد الثورة نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد. وأضيف إليه حلّ وكالة الاتصال الخارجي، الأمر الذي أدى إلى فوضى في الإعلانات العمومية التي كانت الدولة توزّعها على الصحف، كما يؤكد المعمري. ويضيف: «ولا ننسى أن مسألة توزيع الصحف لا تزال تعاني فوضى وتجاذبات، على رغم وجود مؤسسة جديدة تنافس مؤسسة الدعداع».
&
مجلس للصحافة
يرى عبدالكريم الحمزاوي أن الصحافة في تونس تحتاج إلى إصلاح هيكلي، وهذا الإصلاح يحتاج إلى سياسة عامة وقرار سياسي حازم، لافتاً إلى أن قضية الصحافة بعد الثورة لم تعد قضية حرية تعبير بل قضية جودة. وقد يكون ذلك، وتوافقه حياة السايب الرأي، على يد مجلس أعلى للإعلام ينظّم كل هذه الفوضى من دون أن يحدّ من حرية التعبير. وتقول السايب إن «المجلس ضروري في غياب سلطة إشراف بعدما تحرّر القطاع بالكامل ووجود هيئة تعديلية تجري العودة إليها عند الضرورة مهم على غرار ما هو معمول به في الدول الديموقراطية». في حين يتخوّف بعض الصحافيين، ومنهم المعمري، من أن هذا المجلس الإعلامي قد يحدّ من حرية التعبير أو يفرض ما يكبّل القطاع.
&
التعليقات