صالح عطية

&ثمة قناعة لدى عموم التونسيين اليوم، بأن "حركة النهضة" في تونس، حزب قوي ومنظم، قياسا ببقية الأحزاب، سواء التي في الحكم أو تلك المتموقعة في المعارضة.. ولا تشذّ مكونات الطبقة السياسية في البلاد ـ بما في ذلك خصوم الحركة ـ عن هذا الرأي، الذي يقال علنا، ويتداول في الكواليس.
بيد أن وجهة النظر هذه لا تخلو من تساؤلات عديدة، ترتقي أحيانا إلى مستوى المخاوف الحقيقية:هل الديمقراطية التي تتحدث عنها وتدعو إليها، جزء من فكرها السياسي، أم هي "تكتيك" مرحلي ستنقلب عليه بمجرد وصولها للحكم؟ كيف استفادت من فترة قيادتها للبلاد خلال ما عرف بـ"حكم الترويكا"؟ هل باتت جزءا من البيئة السياسية التونسية، أم لا تزال إخوانية الطابع والأفق؟
منذ الإعلان عن تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا) في العام 1981، مع الهزيع الأخير من حكم الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، كان واضحا تبني الحركة (التي كانت تسمى الجماعة الإسلامية)، لفكرتين أساسيتين:
الأولى، هي أنها لا تقدم نفسها ناطقة باسم الإسلام، وهذا يعني نسبية فكرها واجتهاداتها في الحقل الديني والسياسي، والثانية قناعتها بالخيار الشعبي، المتمثل في صندوق الاقتراع والتداول السلمي على السلطة.
لكن دخول الحركة في علاقة شدّ وجذب مع نظام الحكم في عهد بورقيبة، ثم في مرحلة ابن علي، تخللته محاولات للانقضاض على الحكم، وتغيير الوضع في البلاد من خارج صندوق الاقتراع، ما أثمر مخاوف لدى النظام الذي أجهز عليها أمنيا ووجوديا، فيما يعرف بـ"محنة العشرين عاما" (1990 ـ 2010)، التي وضعت الحركة "رهن المحبسين": السجون والمهاجر، بالإضافة إلى سيف "المراقبة الأمنية" لسنوات طويلة.
ومع قيام الثورة التونسية في يناير من العام 2011، استعادت الحركة بكيفية سريعة موقعها في المشهد السياسي كطرف، بدا الأقوى، بزخم نضالاته، ومعاناة أسره، ما جعل التونسيين، يمنحون الإسلاميين فرصة قيادة الدولة.
الفرصة المهدرة
لم تستثمر حركة النهضة هذه الفرصة بالشكل المطلوب، رغم تحالفها مع أطراف علمانية، وزادت أخطاؤها التقديرية والسياسية وعوائقها الاتصالية في تسريع نسق "عدم نجاحها" في الحكم، أمام تلك الموجة المعارضة، التي استخدمت فيها كل الأدوات والوسائل والعلاقات والتحالفات، ما أدخل البلاد في أزمة سياسية عميقة، اختارت حركة النهضة في أعقابها، الخروج من الحكم في نهاية 2013، مكرهة، خصوصا مع بروز حدث الانقلاب في مصر، الذي ذكّرها بـ"سنوات الجمر" وعذاباتها.
كان خروج الحركة من الحكم، فرصة لالتقاط أنفاسها المختنقة، ورؤية الوضع بكيفية مختلفة، خصوصا أمام صعود "حزب نداء تونس"، بقيادة السياسي المحنّك، الباجي قايد السبسي، الذي نجح في أن يضع النهضة في الزاوية.
غير أن الحركة التي تعودت الانفلات من "الزوايا"، استطاعت في بضعة أشهر، أن تلملم جراحها، وتستعدّ لانتخابات صعبة، جاءت فيها الثانية ترتيبيا، لتدخل الحكومة بوزير ووكيل وزارة، وبكتلة برلمانية هي الثانية بعد كتلة الحزب الحاكم.
لكن صدى حركة النهضة في الحكم كما في البرلمان، أقوى من حزب النداء ومن بقية الأطراف.. لقد استفادت الحركة من فترة حكمها، على مستوى الخطاب والأداء والتنظيم واستيعاب (منطق الدولة)، بل بات رموز خصومها بالأمس، يعتبرونها "الملح الذي لابد منه في طعام الحكم"، لتتحول حركة النهضة إلى رقم يصعب إسقاطه من حسابات السياسة والحكم في تونس..
هل يبدو هذا "الرقم" واضحا من حيث الأفق الذي يقود مواقفها وتحركاتها؟
زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، وصل في ندوة قبل يومين، بمناسبة الذكرى 34 لتأسيس الحركة (6 يونيو 1981)، للسياقات التي يتحرك فيها الحزب، بالتأكيد على أنها "حركة مؤسسات وليست حركة أشخاص"، وبأنها متجذّرة في الفكر الإصلاحي التونسي، وأن "الديمقراطية ليست تكتيكا، بقدر ما هي جزء من ثقافة الحركة وأسلوب عملها"، موضحا أن مسألتي الهوية والحرية، اللتين كانتا محور صراعات النهضة مع الحكم منذ تأسيسها، باتا التحصيل الحاصل، فـ"الهوية مكرسة في الدستور"، و"الحرية واقع نعيشه في بلادنا"، ولم يبق من مشاغل النهضة سوى "الهمّ الوطني" الرئيسي: التنمية والتوازن بين الجهات، "فذاك الذي تدندن الحركة وتونس حوله الآن"، وفق تعبير الغنوشي.
أهداف المرحلة
ثلاثة أهداف أساسية لحركة النهضة في المرحلة المقبلة، تعكس جوهر علاقتها بالحكم، وسياق الدور الذي ستلعبه وستراهن عليه:
1 ــ حماية الدولة من مشاريع التفكيك المحلية والخارجية، فــ"لا شيء خارج الدولة إلا الفوضى والحرب الأهلية".
2 ــ القطع مع "مركزية الدولة"، عبر توسيع نطاق السلطة المحلية/البلدية.
3 ــ إشاعة ثقافة التعايش ونبذ الإقصاء والتنافي في تونس وسط خشية النهضويين من إمكانية استهدافهم مرة أخرى.. ويعتبر الغنوشي في هذا السياق، أنه بقدر ما تنجح تونس في التوافق والتعايش، بقدر ما تحقق الانتقال من "مرحلة الثقب الأسود"، إلى مرحلة الحرية والديمقراطية على حدّ تعبيره.
لكن، في مقابل هذه النزعة المطمئنة والإيجابية، لا تجيب النهضة عن مخاوف جديدة من قبيل: كيف ستتصرف مع سيناريو إسقاط الحكومة الراهنة؟ وماذا تعدّ لمرحلة ما بعد الباجي قايد السبسي؟ وهل تبدو في مأمن من "خصوم الأمس"؟ وهل تكون المصالحة مع رموز المنظومة القديمة وذراعها المالي (رجال الأعمال)، البوابة نحو "تفكيك الألغام" من حولها، وضمان استمرارها في المشهد السياسي الوطني؟
أسئلة تقضي مضجع النهضويين.. وأحسب أنها تطرد النعاس من جفون التونسيين أيضا.. فالبلاد على "كفّ عفريت".. والعفاريت في كل مكان.
&