حسن المصطفى


الكتابة عن خطر الطائفية باتت أمراً يبعث على الضجر والملل، واستحالت إلى فعل مكرر ممجوج، فقد الكثير من جديته، وصار خرقة بالية، يرفعها الكثيرون، وتلوحُ بها الحشود في أحاديثها وكتاباتها التي ضاق بها الخافقان!.

مردُ ذلك، أن الكتابات والنقاشات تأخذ في كثير منها طابعاً تسطحياً، أقرب لعروض السيرك وألعاب الخفة. هي ممارسة يروم من خلالها الكثيرون نثر الرماد في عيون الجماهير المتسمرة أمام عرض باهت وهزيل.

"لمَ تضعون هذا القدر من الملح في حقيقتكم، إلى درجة أنها لا تعود صالحة حتى لإرواء العطش". يقول نيتشه، مضيفاً إنه بالفعل "شيء فظيع أن تموت عطشاً في البحر".

أليس أمراً ملفتاً للانتباه أننا رغم هذا الكم الهائل من الصراخ ضد الطائفية، والبراءة منها، ورميها بحجارة صلدة، لا نزال نراها ماثلة أمامنا، تهدد مستقبل الأجيال القادمة، ومفهوم الدولة الوطنية، وتسمح للكراهيات أن تنفلت من عقالها.

إنها جبال الملح التي حذر منها نيتشه. تلك الأطنان التي نذيبها في مياه الحديث وتنساب بين الأحرف، فلا تعود مرئية، ولكن ما أن تذوق منها شربة، حتى تشعر بها كسكين حادة تقطع شفتيك وتجرح لسانك، فتجري عليه الدماء، عوض أن تنطق به الحكمة.

خطر الطائفية يكمن في ذوبانها السريع والمستتر في سرديات أصحابها. بحيث لا تعود مرئية حتى لدى منتجيها، الذين يعتقدون أنهم شفوا منها، فيما هي تسيطر عليهم وتمثل نواة أساسية في مضمر الخطاب.

يمكن لصاحب البصيرة أن يتلمس هذا التمذهب الخفي، في المسكوت عنه من أفكار الكثير من المثقفين، حتى غير الدينيين منهم، لأن الطائفية موقف اجتماعي سلوكي، أكثر منها موقفاً دينياً. هي هوية جامعة ضد المختلف، وعودة إلى الحاضن البدائي الأقلوي.

الشفاء من الطائفية لا يمكن أن يمر دون الاعتراف بوجودها في ذواتنا، وأننا جزء من إشكالاتها، وسبب في انتشارها، كوننا نرفض الذهاب إلى الطبيب الحاذق لأخذ الترياق الشافي. ترياق له من مرارة المذاق الكثير، لكنه ضروري لحفظ النفس من هلاك بائن وقريب!.

يمكننا أن نكابر، ونتكاذب، ونقول إننا معافون، ولسنا بحاجة إلى أي دواء. لكن من يشاهدنا سيرى الهزال في الجسد، وسيبصر الصُفرة في عيوننا، وشفاهنا التي تخفي خلفها أسناناً مهترئة نخرها السوس.

"يمكن للفم أن يكذب، لكن تكشيرته تقول الحقيقة آنئذ". كما يقول نيتشه بسخرية لاذعة. حقيقة ربما يسعى كُثرٌ إلى تجاهلها، اعتقاداً منهم أنهم يخبئون الأوساخ بعيداً عن أعين الحسناوات اللواتي لا يليق بهن القبح، لكنهم يراكمون جبلاً من أمراض وقيح. قيحٌ علينا التطهر منه، إن أردنا أن لا يفسد حيوات القادم من أجيال.

ما يبعث على الوجع أيضاً، أن النخب التي تسعى لنقد خطابات التطرف، نجدها تعيد صياغته بطريقة أخرى. فهي في جزء من خطابها تستخدم عبارات وأوصافاً قدحية ذات بعد طائفي، أو عنصري، أو عرقي.. فتراهم يمزجون في نقدهم بين المذهب والسياسة، وبين الطائفة والدولة، وبين الحزب والقومية، وبين التيار السياسي والعرق البشري. وهو الخلط الذي يمارس بفوقية وشتائمية ممجوجة في بعض الخطابات.

من هنا، إن أردنا أن ننقد الطائفية، فعلينا أن نحترم أصحاب الطوائف ومعتقداتهم، وما يؤمنون به من مقولات خاصة، أولا، وبعدها نمارس النقد العلمي الموضوعي للأفكار والمواقف السياسية، بوصفها منتجاً بشرياً محضاً، دون النظر لمذهب أو عقيدة منتجها. لأن أي خلط بين المذهب والسياسة، سيقود إلى الوقوع في فخ سحيق، لن نخرج منه إلا أجساداً متكسرة، وأرواحاً أثقلتها الكدمات!.
&