صالح عطية
&
للمرة الثالثة في غضون السنوات الأربع الماضية، تتعالى بعض الأصوات للمطالبة بتدخل المؤسسة العسكرية في الحكم، وتوليها السلطة وقيادتها لدواليب الدولة..
حصل ذلك خلال قمة الاستقطاب الثنائي بين "الترويكا" التي كانت تقودها حركة النهضة الإسلامية، والمعارضة بشتى أطيافها (2012 ـ 2013) .. وكان المبرّر عندئذ، وقف الاحتراب السياسي والفوضى، وما قيل إنه محاولة من الترويكا للنكوص على الدولة المدنية وعلى قيم الجمهورية..
وتكررت الدعوة لاحقا، قبيل الانتخابات الماضية، عندما كانت اتجاهات الرأي تميل نسبيا لصالح الدكتور المنصف المرزوقي، المرشح لرئاسية 2014، واعتبرت الدعوة في تلك الفترة، جزءا من هجمة الثورة المضادة ورموزها، المتخوفين من المحاسبة والقصاص السياسي والقانوني..
الحياد خيار استراتيجي
وإذا كان لهاتين الدعويين ما يبررهما سياسيا ـ في نظر أصحابهما ـ فإن تجديد الطلب قبل نحو أسبوع من قبل شخصية إعلامية / سياسية، عرفت بحدّية مواقفها في العلاقة بالإسلام السياسي، طرح أكثر من تساؤل صلب الطبقة السياسية وفي أوساط المراقبين..
إذ كيف تدعو شخصيات تزعم دفاعها عن الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، إلى إقحام المؤسسة العسكرية في الصراع السياسي، بل في إدارة الدولة؟ هل هو استدعاء للحكم العسكري كبديل عن حكم المدنيين ؟ وماذا بوسع المؤسسة العسكرية أن تضيف لمقاربات الأحزاب الحاكمة التي جمعت بين اليمين واليسار ولفيف من الليبراليين الجدد ؟
الأخطر من هذه التساؤلات كلها، أن استدعاء الجيش لتولي السلطة، يعني ـ في نظر عديد المراقبين ـ انقلابا على مسار خيار استراتيجي، قرره بناة الدولة الوطنية، بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه منذ منتصف خمسينات القرن المنقضي (الجيش التونسي أسس في 24 يونيو 1956)، عندما اختاروا تحييد المؤسسة العسكرية عن حلبة الصراعات السياسية، في مسعى لتجنيب البلاد مصير عديد من الدول الإفريقية والمشرقية التي كانت تعاني من ويلات الانقلابات العسكرية..
كان رموز "دولة الاستقلال" آنذاك، يفكرون في ترسيخ حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، تسمح بإعادة بناء دولة أنهكها الاستعمار والتخلف وأضناها الفقر والجهل والأمية، وعدم توفر ثروات طبيعية.. ولم يكن ذلك ممكنا في ظل مخاوف من دور سياسي للمؤسسة العسكرية، يمكن أن يربك إرادة البناء الجديد، وكانت الأوضاع في مصر وسوريا والعراق، على وجه التحديد، تقدّم المثال على حالة الإنهاك التي تسببت فيها الانقلابات العسكرية وانعكاساتها على الدولة والمجتمع على حدّ السواء ؟
لذلك كان الحرص شديدا على إبعاد أصحاب "البزّة العسكرية"، عن الشأن السياسي... وهكذا انحصر دور الجيش التونسي منذ مرحلة التأسيس إلى الآن، في حماية الحدود والتنمية الداخلية، بل حتى عندما تمّ الزّج به في الاضطرابات الاجتماعية التي حصلت نهاية السبعينيات (الصراع بين الحكومة واتحاد العمال)، ومنتصف ثمانينات القرن الماضي (ثورة الخبز)، لم يلبث أن عاد إلى ثكناته ليستأنف دوره المعتاد..
انحياز لحكم العسكر
والحقيقة، أن ثمة أطرافا عديدة، تنظّر لحكم العسكر في تونس.. ويتحدّث هؤلاء عن حاجة البلاد إلى استقرار يقوده الجيش ويفرضه، أمام عجز السياسيين عن تحقيق ذلك منذ 4 سنوات أو تزيد.. ويرى هؤلاء أن المؤسسة الأمنية، التي تعلمت كيف تحمي الحكم وليس الدولة، تمرّ حاليا بمرحلة هشاشة بعد الضربات الكثيرة التي تلقتها من داخلها ومن خارجها، يضاف إلى ذلك، المخاطر الأمنية المتأتية من جهة الجار الليبي، وحركة الإرهاب التي تتحرك على التماس مع جميع مداخل البلاد، إلى جانب ضعف القوى السياسية في الحكم كما في المعارضة، إذا استثنينا الإسلاميين (حركة النهضة تحديدا)، التي باتت رقما يصعب إسقاطه سياسيا، والخيار الوحيد ـ وفق هذه المقاربة ـ هو حكم العسكر، الذي بإمكانه أن ينهي مسار السياسيين الموصوف بـ "الفاشل"، ويمهّد لمرحلة جديدة، شعارها "الديمقراطية التي تأتي على ظهور الدبابات" !!
لا شك أن مثل هذه المقاربة، تقتات من الاستبداد السياسي، وغياب أفق على مستوى الحلول الاقتصادية والاجتماعية، لكن السؤال المطروح هو : هل المؤسسة العسكرية تمتلك "خاتم سليمان" السحري، بحيث ستجري على يديها الديمقراطية والتنمية والعدالة وفرص العمل ؟ وهل بوسع الجيش الذي لا يمتلك تقاليد في إدارة الدولة، أو في التعاطي مع الشأن السياسي، أو حتى على مستوى العلاقات الدولية، أن يكون البديل عن ديمقراطية ناشئة، يبنيها المجتمع ونخبه بصراعات، ولكن كذلك بحوارات وتفاهمات وتوافقات، مهما كانت درجة التحفظ على مسارها وسياقها وأفقها ؟
دور النخب التونسية
وقبل ذلك وبعده، تبدو المؤسسة العسكرية، ـ في نظر عديد الأطراف ـ محلّ غموض كبير، حول دورها ليس زمن الاستبداد فحسب، إنما كذلك خلال أيام الثورة، ومدى علاقتها بقنص الشبان الثائرين وملف الشهداء، وما يتردد عن رغبة بعض قيادييها الآن، وضع خطوط حمراء أمام أي عملية نقد أو مساءلة بشأن دورها ومسؤوليتها في كثير من الأحداث والوقائع، فضلا عن المخاوف التي تحاصر قسما كبيرا من الطبقة السياسية بخصوص أي دور سياسي يمكن للمؤسسة العسكرية أن تلعبه في البلاد خلال المرحلة المقبلة..
يظل حياد العسكر إزاء الشأن السياسي، الهوية الحقيقية لمؤسسة الجيش في تونس، فهذا العنوان الذي تمسكت به قياداتها طوال عقود عديدة، ورددته رموز من المؤسسة إبان الثورة، في إصرار شديد على فلسفة "الحياد الإيجابي"، هو الذي يعطي لهذه المؤسسة رمزيتها وثقلها، ويجعل منها مؤشرا لاستقرار البلاد.. أما عكس ذلك، فمعناه إقحام الدولة في أتون من الانقلابات والصراع الدموي على السلطة، وهذا ما سوف يجعل الثورة "في خبر كان"، ويفتح البلاد على مرحلة "دم... يوقراطية"، قد لا تنتهي إلا بانتهاء ما تبقى من الدولة التونسية..
فهل تنزلق النخبة التونسية بهذا الاتجاه في المستقبل ؟؟
&
التعليقات