أثينا - شادي الأيوبي: منذ بدء الأزمة الاقتصادية وإجراءات التقشّف في اليونان، تعرّضت الأسر ذات الدخل المحدود لمشكلات كثيرة، وعجز بعضها عن تأمين حاجاته، فيما قلّص البعض الآخر متطلباته في شكل واضح.

ولعل مسألة فاتورة الكهرباء كانت أوضح مثال على ذلك، فهي ترتفع بإستمرار، يضاف اليها ضرائب لمصلحة البلدية وأخرى لمصلحة الراديو والتلفاز الحكومية، كما ألحق بها أخيراً ضريبة على العقار. كل هذه الضرائب جعلت فاتورة الكهرباء حملاً ثقيلاً على الأسر الفقيرة والمتوسطة، حتى إنها أصبحت عاجزة عن تسديدها في وقتها وإضطرت إلى الدخول في عملية تقسيط لتجنّب قطع التيار عن منازلها.

وخلال السنوات الخمس الماضية، قُطعت الكهرباء عن مئات المنازل بسبب عدم تسديد فواتير، فكان أن تطوّع شباب من أنصار حزب «سيريزا» الذي كان في المعارضة آنذاك، بإعادة وصل عدادات التيار لتلك المنازل في بادرة تحدٍ لما وصفوه بالظلم الإجتماعي المتفاقم.

وعلى رغم أن مصلحة الكهرباء كانت تؤكّد إنها تراعي ظروف المواطنين ولا تقطع عنهم التيار إلا في حالات قليلة، فقد كان للقضية أثر إجتماعي سيّء على تلك الأسر والمحيطين بها. وأثارت هذه القضية إستياء شعبياً واضحاً، خصوصاً مع شيوع أخبار عن الرواتب الخيالية التي يتقاضاها مدراء مصلحة الكهرباء وكبار موظفيها.

حالات الفقر والعوز تتجلّى كذلك في الأسواق الشعبية، وتحديداً عند إنتهاء دوام العمل فيها في فترة بعد الظهيرة، حيث يظهر أفراد وأسر، معظمهم من الأجانب، يجمعون ما تركه الباعة من خضار وفواكه قبل أن يرميها عمال النظافة في القمامة.

كما إنتشرت أخيراً أخبار عن إصابة تلاميذ في المدراس بحالات إغماء جراء سوء التغذية الذي يعانون منه، ما دفع جهات حكومية وأوروبية إلى توزيع حصص غذائية وفواكه على تلاميذ في شكل دوري.

بين المطرقة والسندان

وطاولت إجراءات التقشّف المتقاعدين في شكل كبير، فقد خُفّضت معاشاتهم التي كانوا يشتكون من ضآلتها أصلاً، ما زاد في معاناتهم. يضاف إلى ذلك أن طبيعة المجتمع اليوناني الذي لا يزال قائماً على الأسرة تجعل من تلك الرواتب التقاعدية سنداً لآلاف من أبناء وأحفاد، لا سيما مع إنتشار البطالة وتفاقمها في صفوف الشباب.

ومع توقّف الأعمال، توقّفت آلاف المشاريع الصغيرة التي كانت تقوم على شخص واحد أو أفراد قليلين، وبالتالي لم يعد البلد يوفر أي عمل لهؤلاء. وتحوّل أصحاب تلك المهن إلى عاطلين عن العمل أو عمال ينتظرون فرصة يوماً هنا أو هناك بعدما كانوا يشغّلون أشخاصاً كثراً لديهم. ولم تسمح الضرائب المرهقة، التي تفرضها صناديق التأمين المختلفة، لهؤلاء بالإستمرار في مشاريعهم إذ باتت غير مجدية إقتصادياً.

الناحية الأخرى من مأساة هذه الطبقة العاملة كانت في القروض التي تورّط آلاف منهم فيها. فقد كانت البنوك اليونانية تقدّم تسهيلات مغرية للجميع ومن دون ضمانات وافية، ما أدّى إلى «إنغماس» كثيرين في إقتراض مبالغ لشراء منازل أو سيارات وصولاً إلى الكماليات. ومع إنقطاع الأعمال فقد هؤلاء القدرة على التسديد، وواجهوا البنوك التي أصبحت تتعامل معهم بقسوة بالغة وتطاردهم في المحاكم. وكانت النتيجة أن معظم هؤلاء خسروا المنازل التي إشتروها وأصبح عدد كبير منهم مشرّداً وفقراء يستجدي مساعدة محيطهم.

كما فضّل آلاف اليونانيين، ومنهم شبان، العودة إلى قراهم والبدء بمشاريع زراعية مختلفة أعطتهم فرصة لإنطلاقة جديدة، بعدما يئسوا من حياة في المدن لم تكن تؤمن لهم إلا الكفاف.

كما ظهر بُعد إجتماعي آخر للأزمة، وهو إضطرار أعداد من النساء للعمل في مهن شاقة كانت حكراً على الرجال، مثل محطات الوقود والنظافة وأحياناً مهن البناء وتنظيف الأبنية.

وقد دفعت هذه الظروف أكثر من جهة يونانية إلى مبادرات لمساعدة المحتاجين، مثل قيام بلديات وكنائس وجمعيات خيرية بتقديم آلاف الوجبات اليومية للأسر المحتاجة والشباب العاطل عن العمل أو المشرّد في الشوارع. كما تقوم مبادرات أخرى لدعم هذه المشاريع الخيرية بمساندة من محطات إذاعية، حيث تخصص أماكن في المحلات التجارية الكبرى تُجمع فيها مواد غذائية مثل الحبوب وزيت الزيتون ومواد التنظيف «يتبرّع» بها زبائن تلك المحلات، لترسل لاحقاً إلى جمعيات تقدّمها بدورها لمحتاجين مسجلين لديها.

وفضلاً عن الفقراء من أهل البلد الذين يمكن إحصاؤهم ودراسة أحوالهم، هناك عشرات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين الذين يعيشون في ظروف صعبة للغاية. فبعد إنقطاع أعمال البناء التي كانت تشغّل معظم المهاجرين الأجانب في اليونان، هاجر قسم كبير منهم، فيما بقي القسم الآخر يعاني البطالة والفقر في إنتظار فرصة للخروج من البلد أو إيجاد عمل بسيط.

ومع الأزمة المتفاقمة في بلاد مثل سورية وغيرها، تضاعفت أعداد اللاجئين في اليونان وأصبحت محاولة مساعدتهم شبيهة برمي فتات لآلاف من المحتاجين، فيما يتكدّسون في مخيمات ومعسكرات وينام قسم منهم في الساحات العامة والمباني المهجورة.

وتقدّم مؤسسات تطوعية يونانية ما تستطيع توفيره لهذه الفئة المهمّشة، فيما يقوم أبناء الجاليات أنفسهم بمبادرات جماعية أو فردية للتخفيف عنها.

أرقام مقلقة

يفيد تقرير للجنة الأوروبية للعمل والتطورات الإجتماعية أن اليونان وإرلندا وإسبانيا وإيطاليا وهنغاريا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، سجلت أعلى معدّل للفقر والعزلة الإجتماعية في عام 2014.

وأورد التقرير إن المجموعات السكانية التي تقف على حافة الفقر والعزلة الإجتماعية في اليونان زادت من 28.1 في المئة عام 2008 إلى 35.7 في المئة عام 2013، فيما زاد الحرمان من حاجات أساسية في البلد خلال هذه الفترة من 11.2 في المئة إلى 20.3 في المئة.

ويشير التقرير إلى أن البطالة طويلة الأجل في اليونان إرتفعت من 3.7 في المئة عام 2008 إلى 18.6 في المئة عام 2013، فيما تراجعت نسبة التشغيل لدى السكان الفاعلين إقتصادياً (من 25-64 سنة) خلال الفترة ذاتها من 61.9 في المئة إلى 49 في المئة.

كما يوضح التقرير أن البلاد المذكورة شهدت أعلى نسبة لعودة الشباب للسكن مع ذويهم بسبب عدم قدرتهم على تحمّل أعباء المعيشة بمفردهم.

وفي بحث لمؤسسة «كابا ريسيرش» المحلية يتضح أن ثلث اليونانيين يعيش بأقل من 470 يورو شهرياً، فيما واحد من كل خمسة أطفال يعيش تحت خط الفقر. كما يخاف 60 في المئة من اليونانيين من التحوّل بين ليلة وضحاها إلى فقراء بسبب عارض المرض أو التقدّم في السن.

وتضيف الدراسة أن الدولة لم تستطع إظهار وجه إجتماعي لمواطنيها يشعرهم بالأمان، مبيّنة أن 38 إلى40 في المئة من المنتحرين سنوياً تراوح أعمارهم بين 25 و45 سنة.