علي جرادات
من يزرع الريح يحصد العاصفة. والسحر ينقلب على الساحر. استعاد كثيرون حكمة هاتين المقولتيْن بعد المذبحة «الداعشية» في بلدة سروج التركية، اتصالاً بمعطيات تؤكد وجود علاقة تفاهم ضمني، أو علاقة تقاطع مصالح، بين تركيا الأردوغانية و"الدواعش"، فيما اعتماد التحليل المنطقي يكفي لتأكيد وجود هذه العلاقة، إذ يصعب، بل يستحيل، دخول عشرات آلاف «الدواعش» إلى العراق وسوريا من دون سماحٍ أو تغاضٍ تركي رسمي، ولا يُعقل أن ينجح تنظيم «داعش» في تهريب النفط والغاز والقطع الأثرية من دون تسهيل من تركيا الرسمية التي تجمعها وعصابة «داعش» مصلحة مشتركة لإسقاط النظام السوري ومحاربة قوات «الحماية الكردية» امتداد حزب العمال الكردستاني التركي «الذي تصفه تركيا ب«الإرهابي». وبإيجاز يكثف الكاتب الفلسطيني حسن خضر الأمر بالقول: «لكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن العلاقة الملتبسة بين تركيا الأردوغانية و«الدواعش» ليست بالظاهرة الفريدة، أو الجديدة، في العلاقات، والصراعات، الإقليمية والدولية، التي توفر ظروفاً موضوعية لتحالفات نفعية قصيرة، أو متوسطة المدى، بين دولة وجماعة إرهابية، يحرص الطرفان على إنكار وجودها في العلن. ولا يندر أن تنقلب الدولة على الجماعة، أو العكس». وتكفي الإشارة، (مثلاً)، إلى أن الولايات المتحدة وباكستان ودولاً أخرى، أنكرت لسنوات انخراطها في تسليح وتدريب وتمويل «طالبان» ورديفها تنظيم «القاعدة» الإرهابي لمواجهة الاتحاد السوفييتي، بينما تكشفت الأسرار والأبعاد الحقيقية لدور هذه الدول في تلك الحرب، بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، التي انقلب فيها، وبعدها، الإرهابيون، حلفاء الأمس، على الأمريكيين والباكستانيين وغيرهم الذين نهشهم الوحش الذي سبق وغذوه.
المهم هنا هو التشابه القائم بين علاقة باكستان ب«الجهاد» الأفغاني المُفتعل وعلاقة تركيا ب«الجهاد» «الداعشي» المزعوم. ويُلخص الكاتب خضر هذا التشابه بالقول: «في الحالة الباكستانية نجد نظاماً يعتمد أيديولوجيا الإسلام السياسي لتحقيق مصالح استراتيجية، تتعلّق بالصراع مع الهند، ومشكلة كشمير، والحدود مع أفغانستان، واختلاط الأنساب والقبائل على جانبي الحدود. وفي الحالة التركية نجد نظاماً يعتمد أيديولوجيا الإسلام السياسي لمنافسة إيران على دور القوّة الإقليمية في سوريا والعراق (والإقليم)، وإخماد الطموحات القومية للأكراد في البلدين، إضافة إلى تركيا نفسها، فضلاً عن اختلاط الأنساب والقبائل على جانبي الحدود السياسية المرشحة للانكماش أو التمدد. وكما حدث في الحالة الباكستانية التي توّلت فيها أجهزة الأمن، بعيداً عن رقابة الصحافة، والبرلمان، والأحزاب السياسية، إدارة الحرب على السوفييت، بما فيها تسهيل مرور السلاح، والمتطوّعين، والأموال، وإنشاء معسكرات تدريب، ومراكز إعلامية وخدمية، تتولى أجهزة الأمن التركية، في الوقت الحاضر، بعيداً عن رقابة الصحافة، والبرلمان، والأحزاب، إدارة الحرب في سوريا والعراق، وتقدّم الخدمات نفسها، التي سبق وقدمها الباكستانيون».
إذاً، لا حاجة إلى المزيد من الدلائل للبرهنة على علاقة تركيا الأردوغانية بتنظيم «داعش»، خاصة أن تصريحات كثيرة، بينها «غربية» أمريكية وأوروبية رفيعة المستوى، أشارت إلى وجود هذه العلاقة، بينما ذكر تقرير للأمم المتحدة في العام الماضي أن «معونات الأسلحة والذخائر المقدمة للمنظمات الإرهابية المتشددة في سوريا يتم إرسالها عبر تركيا». وكان لافتاً أن تحظر السلطات التركية، في الشهر الماضي، خبراً نشرته صحيفة محلية عن «اكتشاف الدرك شاحنات محملة بذخائر مدفعية وصواريخ في طريقها إلى تنظيم «داعش» بإشراف أجهزة الأمن التركية»، ما يعني أن ثمة في تركيا بنية تحتية للإرهاب، تكشف أمر علم السلطات التركية بها، عندما أقدمت على اعتقال المئات من أنصار تنظيم «داعش» والمتعاطفين معه في مدن تركية مختلفة بعد هجوم «داعش» الانتحاري في بلدة سروج.
لذلك كله، وعليه، ينبغي التعامل بكثير من الحذر تجاه القول إن تغييراً استراتيجياً قد حصل على علاقة تركيا الأردوغانية ب«داعش»، لمجرد أن الأولى شنت ما شنته حتى الآن من غارات على مواقع الثانية في شمال سوريا، أو لمجرد أنها قررت السماح للأمريكيين باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، ذلك لأسباب أساسية، أولها أن هذه الخطوات جاءت في إطار الغضب ورد الفعل على مذبحة بلدة سروج. أما ثانيها، (وهو الأهم)، فيتمثل في أن تنفيذ الغارات التركية على مواقع «داعش»، جاء في إطار قرار سياسي شمل ما يجري تنفيذه من ضربات لمواقع حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق، ومواقع حليفه قوات «الحماية الكردية» في شمال سوريا، وما يجري من حملة اعتقالات وملاحقة لأعضاء ونشطاء «حزب الشعوب الديمقراطي التركي»، (الذراع السياسية لحزب العمال)، ولأعضاء أحزاب يسارية تركية أخرى، بل وشمل، أي القرار السياسي التركي، تجديد الحديث عن الحاجة إلى «منطقة آمنة» في شمال سوريا لمساندة وتدريب وتعزيز دور «المقاتلين السوريين المعتدلين» الذين لا يتجاوز عددهم العشرات، حسب المخابرات الأمريكية، بينما تصر المخابرات التركية على أن عددهم بالآلاف، وعلى أن بوسعهم محاربة «داعش» والجيش السوري في آن واحد.
قصارى القول: إن أصحاب الرهان الزائد على دور تركيا الأردوغانية في محاربة «داعش»، يتجاهلون، بوعي أو بجهالة، أن تركيا هذه لن تتخلى عن ورقة «داعش»، وأصلها عصابة «النصرة» وأخواتهما، بهذه السرعة، وبهذه الطريقة، ما يعني أن الأكراد هم هدف الغارات الجوية التركية، أما «داعش» فليس سوى الذريعة والغطاء، لكن على الرغم من ذلك، ليس في عداد الاستعجال أو التسرع، وليس في عداد الشماتة، القول: إن السحر قد انقلب على الساحر، وإن تركيا الأردوغانية التي زرعت، خلال السنوات الأربع الماضية ريح «داعش» و«النصرة»، لتحقيق أحلامها وطموحاتها العثمانية الجديدة في الوطن العربي، تحصد الآن عاصفة تبديد هذه الأحلام والطموحات، ذلك ببساطة لأنها عدوانية، والأهم لأنها غير واقعية، وغير منطقية، وينبغي وضعها في متحف للعاديات، اتصالاً بأن نظام الملل والطوائف الذي قام عليه أصلها، أعني نظام الامبراطورية العثمانية، قد تجاوزه العصر والتاريخ، ولن يفضي إصرار أردوغان على إحيائه إلا إلى المزيد من الفتن ومشاهد الدمار والتخريب والتقتيل والتذبيح والتقسيم والإرهاب التكفيري التي تعم المنطقة منذ أربع سنوات خلت، بينما بدأت تطل برأسها في تركيا أيضاً.
التعليقات