علي نون


الذكرى الثانية لمجزرة الكيماوي الأسدي في الغوطة الدمشقية ترافقت مع خبرين اثنين من مصدرين متنافرين لكنهما يتقاطعان بغرابة عند هذه الذكرى المشؤومة، علّهما يطمسان صيتها وصيت ضحاياها!

الخبر الأول يفيد بأن «داعش» دمّر دير مار اليان التاريخي في مدينة القريتين في ريف حمص.. وحرص على عادته المألوفة، على تصوير وتعميم جريمته الى أقصى حد ممكن.

الخبر الثاني يفيد بأن الجيش الأميركي أعلن أنه اكتشف (فجأة!) آثاراً لغاز الخردل في شظايا قذائف استخدمها «داعش» ضد القوات الكردية في مدينة مخمور في شمال وسط العراق، قبل فترة وجيزة!

الغريب ان الإعلان الأميركي يحكي عن «داعش» ويتناسى ذكرى المجزرة الكيماوية الأسدية. والغريب الموازي ان الإعلان «الداعشي» عن التدمير الهمجي للدير الذي بني قبل 500 عام يأتي من خارج السياق!. أي انه يعيد لفت الانتباه إلى حقيقة (جميلة في هذه البشاعة، ومضيئة في هذه الظلامية) ان هذا التنظيم لم يتعرض للمكوّن المسيحي بالطريقة التي تعرض ويتعرض بها لسائر مكونات المجتمعين العراقي والسوري! نكّل وذبح وصلب وشلّع وتفنن في عدميته، في حق أيزيديين وأكراد وشيعة عراقيين، لكنه اكتفى بتهجير أهل الموصل المسيحيين مثلاً، واستعاض بترميز بيوتهم ودعوتهم إلى الرحيل عن مناطقه، عن التنكيل بهم مثلما فعل بالآخرين الموصومين في عرفه بـ»الكفر»، مع عدم تغييب حقيقة موازية هي أن معظم جرائمه في سوريا طاولت المكوّن السني الأكثري أساساً وتحديداً، والمعارضة المسلحة أكثر بما لا يقاس من هدفه المفترض، أي السلطة الأسدية!

هذا الـ»داعش» حقق للسلطة الأسدية ولحلفائها ما عجزت وتعجز عن تحقيقه، على الرغم من كل دمويتها وشراستها وارتكاباتها، وإلى حد يمكّن من الجزم بأنه «أنجح سلاح» أطلقته غرفة عمليات الممانعة في حربها المصيرية لإبقاء إمساكها بالعراق وسوريا.. ولضرب الإسلام الأكثري بطريقة غير مسبوقة ولتحطيم الثورة السورية من داخلها، ولإعطاء مستر أوباما المبرر الإضافي لسياساته إزاء إيران عموماً ومشروعها النووي خصوصاً، بحيث إن الإرهاب (وأي إرهاب؟!) صار الشمّاعة التي يعلّق عليها رئيس أميركا تبريراته المخزية لعدم التحرك ضد جرائم الأسد، وللتركيز على مقولته الاستراتيجية المتحدثة عن ذاتية وداخلية المخاطر التي تواجه الاجتماع العربي الأكثري ودوله ومكوناته، في مقابل ذهابه منتشياً لملاقاة التجربتين «الديموقراطيتين» و«الحداثيتين» الإيرانية والكوبية معاً! وتكرار تأكيد تمسكه الرصين والفولاذي بإسرائيل، باعتبارها مثالاً لا يضاهى للدولة المدنية التي لا تعرف شيئاً عن الفصل العنصري، ولا تشوب ممارساتها اي شبهة أصولية أو استبدادية أو احتلالية أو لصوصية أو عنفية، مثلما يُظهر كل تاريخها، وآخر محطاته في غزة في العام الماضي!

في الوظيفة الاستراتيجية لهذا الـ»داعش» الكثير من مقومات قصة «حلف الأقليات» التي يعمل المحور الإيراني ـ الأسدي استناداً إليها! دقّته في تظهير الإجرام الصادم وإشاعته وتوزيعه وارجاعه إلى النص الديني الأكثري، تجعل من اكتفائه بترهيب المكون المسيحي أمراً تلقائياً وعادياً ومحسوماً.. وعلى النسق ذاته، يأتي تحييده لأي هدف إيراني متمماً لعدم مقاتلته السلطة الأسدية وعدم خوضه أي معركة فعلية (أي معركة!) مع «حزب الله» في مقابل المضي باستهداف السعودية ومحاولة إرباكها بالمعطى الفتنوي المذهبي.

إزاء هذه النكبة التي تخضّ عالم المنطقة العربية وأقوامها ودولها، يصحّ التذكير بأن التاريخ أقوى من شياطين التخريف والتأليف والتحريف.

وفي هذا التاريخ، ما يفيد بأن المسيحيين العرب هم أول العرب وسر فرادة هذه الدنيا.. هم أقوى وأبقى من توظيفات انتهازية وعابرة ولحظوية. وهم أقوى وأبقى من استبداد وطغيان أنظمة وجماعات وتوليفات دموية وخبيثة. وهم أقوى وأبقى وأكبر من أن تأخذهم على غفلة، استخدامات منحطة من تلك القوى التي لا تعرف شيئاً عن الأنسنة ولا عن القداسة، ولا تقدم شيئاً غير العدم وأهواله. ولا تقف في سبيل غاياتها وغواياتها، أمام تدمير أي إرث حضاري وارتكاب أي خطيئة أو جريمة أو كارثة سواء كانت في الغوطة الدمشقية أو في دير مار اليان في ريف حمص، وسواء كان الضحية أقلّوياً أو أكثرياً.