&عبدالمنعم سعيد

الدستور الأمريكى يعطى الكونجرس بمجلسيه ـ النواب والشيوخ ـ سلطات كبيرة للتشريع والرقابة على إنفاق الميزانية؛ ولكنه من ناحية أخرى يعطى الرئيس حق الاعتراض أو الفيتو على قرارات وقوانين السلطة التشريعية،

وفى هذه الحالة فإنه يمكن تجاوز القرار الرئاسى من خلال أغلبية الثلثين. مثل هذه الآلية تسمى «التوازن بين السلطات» وإعطاء كل السلطة القدرات التى لا تجعلها فريسة السلطة الأخري، وتعطيها قدرا من الرقابة عليها؛ ولكن حدوثها لا يعنى فقط أن شرخا بات ساريا بين السلطات، وإنما أن القضية المعروضة تحقق قدرا كبيرا من الاستقطاب السياسى فى الدولة الأمريكية لا يتعلق بالاستقطاب التقليدى بين الديمقراطيين والجمهوريين، وإنما هو استقطاب رأسى وأفقى يتعدى الحواجز الحزبية. وكان ذلك هو ما حدث فيما تعلق بقانون «جاستاJASTA» أو الحروف الأولى باللغة الإنجليزية لقانون العدالة ضد المؤيدين للإرهاب. السبب المباشر لصدور القانون بعد صدوره واعتراض الرئيس عليه ثم حصوله على أغلبية الثلثين فى المجلسين (وفى الحقيقة شبه إجماع فى مجلس الشيوخ) هو أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية فى الولايات المتحدة والتى قام بها تنظيم القاعدة، ومحاولة أسر ضحايا العمليات الإهابية التقاضى ليس فقط مع الإرهابيين، وإنما مع من يعتقدون أنهم مؤيدون لهم.

والشائع عن القانون أنه موجه بالأساس للمملكة العربية السعودية على اعتبار أن 15 سعوديا شاركوا مع أربعة آخرين (إثنان من الإمارات وكويتى ومصرى كان قائدا للعملية كلها) فى الهجمات. ولكن الحقيقة أن نص القانون، وحينما تبدأ عمليات تطبيقه أمام المحاكم الأمريكية، على الأرجح سوف يوسع بشدة من مفهوم «المؤيدين» و«الداعمين» للإرهاب بحيث يصيب من يجرى اختياره بين الدول الإسلامية. وفى مناخ عام مضاد لما يأتى من بلادنا عداءً للغرب والولايات المتحدة خاصة، فإن ما سوف يترتب على القانون من نتائج وخيمة سياسية ومالية لا ينبغى تجاهله. ولا يمكن فى الوقت نفسه تجاهل أن المرشح الجمهورى دونالد ترامب قد طالب بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، وأن هيلارى كلينتون المرشح الديمقراطى خرجت عن تقاليدها فى الالتصاق بالرئيس باراك أوباما وصرحت بأنها لو كانت فى البيت الأبيض لوقعت على القانون فورا، ولما اعترضت على القانون كما فعل.

المسألة هكذا أكثر اتساعا بكثير من المملكة العربية السعودية التى ربما وجد فيها ضحايا العمليات الإرهابية فرصة مالية للحصول على تعويضات ضخمة ليس فقط لما تملكه من موارد مالية كبيرة، وإنما لأن لها استثمارات ضخمة فى الولايات المتحدة، وامتلاك لأذون الخزانة الأمريكية، تتعدى مئات المليارات من الدولارات. والمدهش أن القانون صدر رغم وجود تقرير للكونجرس عن أحداث سبتمبر الإرهابية أعدته لجنة تحقيق فى عام 2004 وأقر بوضوح أن المملكة لم يكن لها دور من أى نوع فى الأحداث. وفى عام 2014 كلف الكونجرس مكتب التحقيقات الفيدرالى بتشكيل لجنة تحقيق أخرى تقوم بمتابعة تنفيذ توصيات التقرير السابق؛ وعندما صدر تقرير اللجنة فإنها أعادت التأكيد مرة أخرى أن المملكة بريئة من الاتهامات الموجهة لها. ورغم هذه النتائج الواضحة من لجان تحقيق محايدة مهنيا، وسياسيا بوجود أعضاء فيها من الحزبين الرئيسيين الجمهورى والديمقراطي، فإن أعضاء فى الكونجرس حاولوا أكثر من مرة من قبل تقديم القانون المشار إليه، ولكنهم أخفقوا بشدة على مدى أكثر من عشرة أعوام.

المسألة هكذا ليست قانونية حتى فيما يتعلق بالقانون الداخلى فى الولايات المتحدة، كما أنها بالتأكيد ليس لها علاقة بالقانون الدولى المتمسك بالسيادة للدول ويمنع مقاضاتها وفقا لقوانين دولة أخري، وهو ما بينه «الفيتو» الرئاسى الأمريكى فى اعتراضه. والقضية فى جوهرها سياسية تستغل ظروف الوهن والضعف والخوار التى يمر بها العالمان العربى والإسلامى نتيجة الثورات التى أرهقت دولا رئيسية فيه، والحركات الأصولية والإرهابية التى أساءت للدين بقدر ما قسمت الشعوب الإسلامية بين مذاهب وطرق وجماعات. ومن يراقب الدول التى حاولت استغلال الحالة هذه سوف يجد دولا إقليمية كثيرة تحاول الحصول على مزايا إستراتيجية ليست من حقها، وأخرى سياسية ليست من نصيبها، وثالثة تحصل على موارد طبيعية مخالفة لكل قواعد القانون الدولي. الولايات المتحدة من ناحيتها أو جماعات فيها هى الأخرى دخلت إلى صف الذين يحاولون استغلال الفرصة رغم ما هو سائد بينها والدول العربية والإسلامية من مصالح مشتركة فى قضايا كثيرة يقع فى مقدمتها مقاومة الإرهاب الذى كان 95% من ضحاياه عربا ومسلمين.

التعامل مع القضية لا يكون بالغضب أو الانفعال، أو المناداة بالثأر والانتقام بأساليب قد تضر أكثر مما تفيد أكثر من إبراء الذمة، فإصلاح أمورنا بجد وعزيمة هو نوع من المقاومة الطبيعية التى تجبر الآخرين أعداء وأصدقاء على احترامنا؛ كما أن وجود إستراتيجية مشتركة بين الدول العربية خاصة مصر والسعودية للتعامل مع الأوضاع الإقليمية والدولية بما فيها قضية قانون «جاستا» لا بديل لها. وما جرى خلال الشهور القليلة الماضية فى الولايات المتحدة هو نتيجة الإهمال المروع للساحة السياسية الأمريكية الحقيقية، والأساليب الخاطئة للتعامل معها والتى اعتمدت بالأساس على شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط والتى قد تفيد فى قضايا العلاقات المباشرة، ولكنها بالتأكيد لا تفيد عندما تصل الأمور إلى ساحات ثقافية وفكرية وإستراتيجية عميقة. وربما يحتاج الأمر قدرا كبيرا من المراجعة والتقييم الصادق ليس فقط للعلاقات العربية الأمريكية، وإنما أكثر من ذلك المدى الذى وصلت إليه الأساليب السابقة، ومن تصدروا لاستخدامها والتعامل معها.