&حسن حنفي

موضوع «الإسلام والغرب» ليس موضوعاً جديداً برز بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن بل هو موضوع قديم منذ انتشار الإسلام منذ أربعة عشر قرناً أو يزيد حول شاطئي البحر الأبيض المتوسط في الجنوب ثم الشمال ووراثته للإمبراطورية الرومانية. إذا قوي الشاطئ الشمالي الأوروبي، اتجه بالغزو نحو الشاطئ الجنوبي الأفريقي. وإذا قوي الشاطئ الجنوبي الأفريقي امتد أثره إلى الشاطئ الشمالي الأوروبي. وأثناء الحروب الصليبية أتى الغزو من الشمال الغربي، الشاطئ الأوروبي إلى الجنوب الشرقي، الشاطئ الآسيوي في الشام. ونجح الجنوب والشرق، مصر والشام في صد العدوان. وفي العصر الحديث أتى العدوان من جديد من الشمال والغرب، من أوروبا وإسبانيا والبرتغال إلى الجنوب والشرق، إلى أفريقيا وآسيا عبر البحار والمحيطات بحركة التفاف نحو العالم القديم بعد أن فشل الاختراق في القلب في فلسطين. وقامت حركات الاستقلال الوطني في أفريقيا وآسيا بالتحرر من الاستعمار الغربي الحديث. وشاركت أميركا اللاتينية في ذلك بعد أن أراد الغرب الإسباني احتلال الشرق الآسيوي عن طريق البحر، عبر الأطلسي، فوصل إلى القارتين الأميركيتين، وتم احتلالهما والقضاء على سكانهما الأصليين. وحلت محلهما أكبر عملية استرقاق بشري من أفريقيا إلى أميركا لإعمارها بعد استعمارها.

فالصراع بين الشرق والغرب منذ الصراع بين فارس والروم وفتوحات الإسكندر في قلب آسيا، والصراع بين الشمال والجنوب منذ الصراع بين روما وقرطاجنة، ثم الصراع حول البحر الأبيض المتوسط بشاطئيه الشمالي الأوروبي والجنوبي الأفريقي، عبر المرحلة القديمة اليونانية الرومانية، ثم الوسيطة المسيحية الإسلامية، ثم الحديثة الاستعمارية التحررية، صراع قديم ما زالت جذوره متأصلة في اللاوعي الحضاري حول البحر الأبيض المتوسط. وهذا الإرث التاريخي، والتراكم الثقافي جعلا شاطئي البحر الأبيض المتوسط كفارسين متبارزين عبر التاريخ، ندّين خصمين لا غلبة لأحدهما على الآخر. فنشأت بين الضفتين علاقة محبة وكراهية، الأثر المتبادل بين الشمال والغرب من ناحية والجنوب والشرق من ناحية أخرى. وهو ما يعرف في الأدبيات الحالية باسم «الإسلام والغرب» وهو تقابل بين حضارة ومنطقة جغرافية، والأصح بين حضارتين، الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، أو بين منطقتين جغرافيتين، بين الغرب والشرق، بين ريح الغرب وريح الشرق. ولذلك تعثر حوار الشمال والجنوب، والحوار العربي الأوروبي، وكل محاولات تأسيس حضارات شرق أوسطية أو متوسطية ليس فقط بسبب الكيان الصهيوني الملتبس، فهو الغرب وسط الشرق، والشمال وسط الجنوب، ولكن بسبب هذا الإرث التاريخي الطويل. وربما يكون مصير محاولات الشاطئ الأفريقي العربي أو الآسيوي التركي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن تلقى نفس المصير إذا لم يتم التخفف من هذا الإرث التاريخي القديم المتراكم في الأذهان والقابع في اللاوعي الثقافي لشعوب المنطقة، والذي يطفو بين الحين والآخر على السطح كما هو الحال هذه الأيام.

وربما أن الفترة الوحيدة التي عاشت فيها الضفتان الشمالية والجنوبية نموذج حوار الحضارات هي الفترة الأندلسية التي عاش فيها العرب والبربر، المسلمون واليهود والنصارى، في غرناطة وإشبيلية وقرطية وطليطلة، في حضارة إنسانية واحدة تنصهر فيها الثقافات المتعددة. وهو ما عرف في تاريخ اليهودية باسم العصر الذهبي. وعرف الغرب بعد خروج العرب والمسلمين من الأندلس محاكم التفتيش للمفكرين والعلماء. ولم تبدأ نهضة الغرب الحديثة إلا بفضل الترجمات التي تمت في طليطلة وفي صقلية وفي بيزنطة للتراث العربي الإسلامي العلمي والفلسفي والعمراني من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر اللغة العبرية، وعندما كان الإمبراطور فردريك الثاني يتحدث العربية في بلاطه ويراسل عبدالحق بن سبعين.

إنه التأصيل التاريخي لعلاقة الحضارتين العربية الإسلامية والحضارة الغربية بين الإرث التاريخي الذي يثقل الكاهلين ويمنع من التحرك نحو النموذج الأندلسي الجديد، حوار الثقافات. كما أنه يساعد على القضاء على أسطورة الجواهر الثابتة للحضارات، والشخصيات القومية للشعوب، الدوائر المغلقة التي تتناطح فيما بينها، مرة غالبة ومرة مغلوبة. ويتجنب الوقوع في إصدار الأحكام المطلقة التي لا تراعي المراحل التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية التي تنشأ فيها كل حضارة. والغرب معروف بنسبية الأحكام في دراساته الخاصة به. وفي الخارج، يطلقها على الحضارات اللاغربية. في الداخل يحلل تاريخية حضارته ومسارها في الزمان والمكان، وفي الخارج يدرس الحضارات اللاغربية في جوهريتها خارج الزمان والمكان. في الداخل يتجنب أحكام القيمة ويفضل أحكام الواقع بدافع الموضوعية والحياد. وفي الخارج يطلق أحكام القيمة مما يكشف عن التحيز واتباع الأهواء. فالمعيار المزدوج ليس فقط في الممارسات السياسية بل أيضاً في النظرة العلمية للحضارات.