&سمير مرقس

فى يناير من العام 1995، سافرت إلى لبنان للمرة الأولى فى حياتي. ولم تنقطع زياراتى المنتظمة عنه فى فترة من الفترات(1995 ـــ 2001، حيث كنت أتولى منصب الأمين العام المشارك لمجلس كنائس الشرق الأوسط). ثم الدورية منذ 2001 وإلى الآن فى إطار المشاركة فى الندوات واللقاءات الحوارية المتنوعة. والأهم أننى توحدت مع كل ما مر به من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية.

ولعل أول ما لفت نظرى منذ رحلتى الأولى هو التعاطى الحياتى بين المصريين واللبنانيين خارج أروقة النقاش والبحث. حيث تسود علاقة تواصل عابرة للزمان والمكان. فاللبنانى يرى المصرى عبر الفن والثقافة والأدب، أولا. ثم الاقتصاد فالسياسة. وهكذا يراه المصرى أيضا. ولا يقف الأمر عند الرواد والمشاهير فقط. ولكن يمتد إلى الأجيال التالية. وأذكر كيف فوجئت بأن اللبنانيين من الشباب آنذاك ـ يعرفون أغنيات الشيخ امام ونجم. ويتابعون الفن المصرى بصورة دقيقة. وفى المقابل كان الشباب فى مصر يكتشفون الكثير من المطربين قبل أن يشتهروا ويحضروا إلى مصر. كما يرددون أعمال مارسيل خليفة وزياد رحباني.واستوقفنى هذا التواصل المجتمعى الممتد عبر الزمن والناعم فى مضمونه.

ولم تكن تكفينى الإجابة الجاهزة حول التواصل التاريخى لرواد النهضة فى مصر ولبنان. أو الهجرة المتبادلة والمتعاقبة بين البلدين. وكانت الرغبة فى إيجاد الإجابة تزداد مع كل زيارة إلى بيروت على مدى 21 عاما.

لذا سعدت بالدعوة التى وصلتنى من مؤسسة الأهرام بالتعاون مع جمعية الصداقة المصرية اللبنانية لرجال الأعمال للمشاركة فى أعمال الملتقى الثقافى المصرى اللبنانى الأول. فلقد حاولت فى إسهامى أن أبحث عن تفسيرللتواصل المجتمعى الممتد والناعم. على الرغم من تغير السياقات السياسية من النقيض إلى النقيض. فمن حضور سياسى فاعل لمصر ناصر. لغياب تام فى الفترة الساداتية ـــ وما تلاها ـــ وفقا لدعوته الشهيرة: ارفعوا أيديكم عن لبنان. إلا أن التواصل المجتمعى بين المصريين واللبنانيين استمر فى حيويته. وسار عكس كل المسارات السياسية و قاوم كل المخططات الإقليمية...ويمكن أن نفسر ذلك فى ضوء ما يلي:

أولا: الحراك المجتمعى المتزامن والمركب؛ منتصف القرن التاسع عشر، فى كل من مصر ولبنان. حيث كان التحرك فى مصر ضد الإقطاع المركزى التسلط لإتاحة قدر من الشراكة فى الحكم لملاك الأرض الجدد والأفندية إلى جانب أفندينا. وهو ما تجسد وتبلور ـــ بعض الشيء ـــ فى انطلاق مجلس شورى النواب عام 1866، الذى نحتفل بذكرى 150 عاما على تأسيسه. وتزامن مع الحراك المصري، حراك مجتمعي لبناني ضد الإقطاع الطائفى العشائري. ولم يقف هذا الحراك عند هذا الحد وإنما امتد ليحمل أيضا موقفا متمردا على الدولة العثمانية لتأسيس مسار مستقل عن تبعية مصر ولبنان «للباب العالى». فى هذا المقام، طُرحت أسئلة النهضة الأولى لكل من الطهطاوى فى مصر والبستانى فى لبنان. حيث انشغلا بقضايا: الاستقلال، والهوية، والعدالة، وبناء الدولة الحديثة، والتجديد المعرفى والعلمي،...،إلخ.

ثانيا: التمركز والاندماج، يرصد لنا مسعود ضاهر فى كتابه زهجرة الشوام :الهجرة اللبنانية إلى مصر (طبعة دار الشروق، 2009)، كيف استقر اللبنانيون فى مصر ومثلوا كتلة مهمة فى الديموجرافيا المصرية. وانخرطوا فى الجسم الاجتماعى المصرى فى العديد من المجالات وبخاصة الاقتصادية. وفى ملاحظة مهمة يقول ضاهر: زتمت عملية الربط بين مصالح البورجوازية المصرية(البازغة) واللبنانيين المتمصرين والرؤية الصحيحة للتاريخ المشترك والمصير المشترك بين مصر ولبنان. وعليه قام تكامل مجتمعى اقتصادى بعيدا عن الحكومات. وعليه تحولت الهجرات الثقافية الأولى ذات الطابع الفردى إلى حضور مكثف فاعل ومبدع ودائم لكوكبة من فنية وثقافية وأدبية وصحفية وفكرية لبنانية (ما يقرب من75 شخصية يرصدها المفكر الكبير كريم مروة فى كتابه الرواد اللبنانيون فى مصر (هيئة الكتاب ــ 2015). وكانت لبنان ملاذا للكثير من الفنانين مطلع الستينيات مثل: إسماعيل ياسين. كذلك لعدد من المثقفين مطلع السبعينيات مثل: غالى شكري، وابراهيم عامر، ومصطفى الحسيني،...،إلخ.

ثالثا: الذاكرة الثقافية المشتركة، مع مرور الوقت تشكلت ذاكرة ثقافية واحدة بين هؤلاء المقدامين ــ من المصريين واللبنانيين ـــ إلى كسر قيود دوائر الانتماء الضيقة: الأولية هنا والطائفية هناك. إنهم الحافظون لإبداعات المبدعين من جيل إلى جيل.والمبادرون باقتحام المجال الاقتصادى وتبادل المنافع بينهما بأريحية وهدوء. والمتمردون بحسم علي: الاحتقان الطائفى هناك، والدينى هنا. وعليه لم تعد حركتهم بين مصر ولبنان هجرة أو ارتحالا أو سفرا أو ما شابه. وإنما بالأحري، باتت انتقالا فى مساحة حضارية ممتدة للوادى والنهر والجبل والبحر على قاعدة الحداثة. فى مواجهة صحراء الإقصاء والأحادية والتطرف والعنف. وعليه باتت ذاكرتهم الحداثية المبدعة والمتجددة، واحدة...

وبعد، لم يكن للتواصل المجتمعى بين مصر ولبنان أن يمتد ويستمر ويثمر إبداعا متنوعا...مالم يتصل النضال المجتمعى هنا وهناك...وتترسخ قاعدة مادية تحمله بالتمركز والاندماج...وذاكرة تحفظه عبر العصور لا تميز بين جنسيات المبدعين ...نتابع...