فـــؤاد مطـــر
بصرف النظر عن المخاض الذي انتهى ولادة قيصرية لرئاسة لبنان، فإن شعورًا بالطمأنينة بدأ يحل محل أجواء الإحباط التي يعيشها اللبنانيون منذ بضع سنوات بلغت ذروتها بالاستهانة التي لحقت بالسلطة التشريعية من أطياف قاطع نوابها خمسًا وأربعين جلسة للبرلمان من أجل انتخاب رئيس للجمهورية. وها هم النواب أولئك يأتون يوم الاثنين 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 إلى الجلسة السادسة والأربعين قبل الآخرين، ويشكِّل حضورهم المنضبط مفاجأة لرئيس البرلمان نبيه بري، ومن دون أن يستبق أي منهم الحضور بيوم أو اثنين أو ساعات بالاعتذار من مبدأ السلطة التشريعية وواجباتها وحق الرأي العام عليهم، لأن غياب هؤلاء عن الجلسات كان دون وجه حق، وأن المبرر لا يلغي ذاك الحق، فضلاً عن أن الغياب أحدث تعطيلاً للحياة العامة، عدا أنه خروج على الأصول الديمقراطية.
وعندما نقول ذلك تستوقفنا المفارقة الأشد استغرابًا، وهي أن الجنرال ميشال عون الذي جرى انتخابه رئيسًا للجمهورية كان دائم الترداد بأن «برلمان بري» غير دستوري، ومن هنا كانت نقطة النظام القاسية التي وجهها إليه الأخير بالقول وهو يعلن رسميًا انتخابه في جلسة اختلطت فيها الجدية والرصانة والقلق بالفكاهة والإغاظة: «نرحب بفخامة الرئيس تحت قبة البرلمان الذي أنت أحد أركان شرعيته الدستورية».
وبصرف النظر عن تعدد ولاة أمر الصَبيَّة التي هي الرئاسة بمَن تربَّع على كرسيها، وهل هو السيد حسن نصر الله أول المبادرين لترشيح الجنرال ميشال عون بحكم أنه الحليف، وأن مقتضيات التحالف توجب ذلك، أم هو الدكتور سمير جعجع الذي تصالح مع الجنرال عون وبذلك بات يمت بصلة التحالف ﺑ«حزب الله»، وإن كان الكلام الخشن الصادر عن جعجع الشبيه بمشاعر نصر الله تجاه جعجع لا يلغي جوهر هذا التحالف التكتيكي. وهنا بالنسبة إلى الدكتور جعجع يحضرنا القول الجازم اللافت لزوجته النائب ستريدا قبل ثمان وأربعين ساعة من جلسة الانتخاب: «لولا تضحيات الحكيم ووعيه لم يكن للبنان رئيس للجمهورية نهار الاثنين». هذا كلام بمثابة إلغاء لحقائق وأدوار بأهمية دور الدكتور جعجع وبشكليْها الإيجابي والسلبي.
وبصرف النظر عن التخريجة الحريرية التي تعددت فصولها وكثرت الاجتهادات في شأنها، فإن مساحة الاستغراب لهذه التخريجة ضاقت بعدما حدثت أعجوبة انعقاد جلسة الانتخاب، وكان التصويت الخجول من جهة والأبيض من جهة للجنرال عون رئيسًا.
الآن وقد تم طمْر الفراغ الرئاسي على مستوى قمة السلطة ولم يعد بالتالي الكلام حوله على كل لسان، يتطلع المواطن اللبناني إلى أن يكون إيقاع إنجاز الرئاسة الثالثة باليُسْر الذي اتسم به إيقاع إنجاز الرئاسة الأولى بحيث لا تُرمى هذه الرئاسة بالضغائن تعويضًا عن مواقف ارتسمت فوقها علامات كثيرة من الاستفهام وعلامات أكثر من التعجب، وتتشكل وعلى أعقل السُبل حكومة تبرر ببيانها لماذا كل هذا التيسير المباغت في ملء الفراغ بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية، كما تبرر ما خلا من مواقف في خطاب القَسَم الذي هو البيان الرئاسي.
وفي تقديرنا أن خيرًا وفيرًا يمكن أن يحدث من التيسير الثاني المأمول حدوثه بالنسبة إلى تشكيل الحكومة، فلا يصيبها ما أصاب على سبيل المثال الحكومة الإسبانية التي دامت أزمة عدم منْح الثقة لرئيسها عشرة أشهر انتهت مصادفة عشية تصويت البرلمان اللبناني على ترئيس الجنرال عون. ومن شأن التيسير المشار إليه في حال صدُقَت النيات التي ترتسم علامات استفهام في شأن مواقف البعض، وتحولت الرئاستان الأولى والثانية إلى فريق عمل يسجل كل منهما للآخر دوره في تحقيق الإنجاز الذي حدث، أن ينتقل لبنان من الدولة المغلوبة على أمرها إلى الدولة التي تقوم بالمساعي الحميدة لتضييق هامش الأزمات المتفاقمة بين بعض الدول العربية والإقليمية.
ونقول ذلك على أساس أن الوضع السياسي المستجِد مؤهل لمثل هذه المساعي، إذ إن فيه مَن يُمثِّل النظام الإيراني وربما له مونة عليه، كما على النظام السوري كما على الحالة الحوثية في اليمن، كذلك فيه مَن له حضور في النظام المصري والنظام التركي.
وأما بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج فإن حكومة يترأسها المتفَق عليه في مداولات الكواليس سعد الدين رفيق الحريري، ومتعاونة شكلاً ومضمونًا مع الرئاسة الأولى ولا إقلاق لها من جانب الرئاسة الثانية، قادرة على أن تبذل المسعى في الاتجاه الخليجي كما في الاتجاه الإيراني، وفي الاتجاه المصري كما في الاتجاه التركي. وحتى بالنسبة إلى الحالة السورية فإن المسعى يصبح واردًا وهذا رهن بنظرة سورية جديدة إلى الوضع في لبنان، واعتبار الجنرال عون صديقًا وليس غير ذلك.
وعمومًا، إنها حالة غير مسبوقة، وذات فاعلية في حال كان على رأس الدبلوماسية الوزير الذي لا يغرد خارج الرؤية المشترَكة من جانب الرئاسات الثلاث.
وإذ إن عوائد المسعى الحميد مجزية بطبيعة الحال، كون الرغبة بمساعدة لبنان واردة من جانب الجميع إذا كان مستقرًا، فكيف إذا كان إلى جانب الاستقرار مؤهلاً لتحقيق نوع من تآلف القلوب والمساعدة في إطفاء نيران طال اشتعالها.
خلاصة القول إن جنرالاً عربيًا جديدًا انضم إلى نادي الجنرالات العرب الرؤساء الحاليين، الذين عميدهم رئيس السودان المعمِّر عمر حسن البشير. كذلك هنالك الجنرال عبد ربه منصور هادي المخطوفة عاصمة جمهوريته المنشطرة في انتظار همة التحالف المحتضِن لإعادته وانتقاله إليها، وهنالك الجنرال محمد ولد عبد العزيز رئيس موريتانيا.
وحده الجنرال ميشال عون دون نظرائه الجنرالات الرؤساء مكبل بعهود والتزامات ليس من اليسر بمكان التملص منها، إلاَّ إذا كان يريد خاتمة كريمة لعمره المديد خالية من المواقف المتقلبة التي كان مبتغاه منها تحقيق حُلْم الترؤس، وقد ناله بيسر لم يتوقعه بعد عسر لا مثيل لتشابكات ظروفه.
أما الذي بعد هذا اليُسْر ففي علم الغيب بالنسبة إلى الجنرال الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية، الذي نال الرئاسة وهو مدين لدائنين لا يتحملون ذرائع عدم التسديد ولا التقاسط.. ويريدون التسديد مع فوائد.
التعليقات