هذا شاعر إماراتي قد لا يعرفه الكثيرون خارج وطنه، لكنه في الإمارات يصنف كواحد من أبرز شعرائها الشعبيين ممن كتبوا القصائد النبطية التي تغنى بها عدد من أشهر مطربي البلاد الشعبيين مثل: علي بالروغه، ميحد حمد، حارب حسن، ومحمد سهيل وغيرهم، فكان ذلك من عوامل حفظ تراثه الشعري من الضياع.

 

 
اخترنا الكتابة عنه لأنه يجسد صورة من صور معاناة جيل بأكمله من أبناء وطنه ممن عاصروا ظروف الإمارات الصعبة قبل الاستقلال يوم كان مواطنوها في فقر جعلهم يرحلون إلى دول الخليج المجاورة بحثًا عن الرزق الحلال أو يركبون أهوال البحر من أجل صيد اللؤلؤ ثم السفر إلى الهند لبيعه في أسواق «بمبي».

 

 

ومن ناحية ثانية تجسد حياته حالة أبناء الإمارات المخضرمين الذين عاصروا الحقبتين: حقبة البدايات المتواضعة، وحقبة النهضة التالية فكانوا شهودًا على كل المنعطفات والأحداث السارة منها وغير السارة. ومن ناحية ثالثة فإن تنقلات الشاعر شاهدة على زمن كانت فيه حدود بلدان الخليج مفتوحة أمام كل مواطنيها للإقامة والعمل دون اشتراطات أوقيود بيروقراطية.

 والحقيقة أن سيرة الشاعر الشعبي الإماراتي سالم بن محمد الجمري طافحة بصور المعاناة والقلق والمغامرة والانتقال من بلد إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى، الأمر الذي انعكس في نتاجه الشعري المبكر. أما تفاصيل نتاجه وسيرته ورحلته الشاقة في الحياة فنجدها مفصلة في كتاب «سالم الجمري.. حياته وقراءة في قصائده» من تأليف سلطان العميمي، وقد صدرت طبعته الأولى في عام 1999 ثم توالت طبعاته منذ ذلك التاريخ، وهو الكتاب الذي سنستمد منه معلوماتنا التالية مع تطعيمها بمعلومات مستقاة من مصادر أخرى متفرقة مثل الديوان الوحيد الذي صدر له بعنوان «لآلئ الخليج» في بداية الثمانينات على نفقة الشيخ زايد طيب الله ثراه. 

 لنبدأ من ميلاد الرجل الذي قيل أنه كان في عام 1905، بالرغم من أن أقرب أبنائه إليه وهو إبنه الأصغر «عجلان الجمري» ذكر أن والده أخبره بأن ميلاده كان في «ليلة الإنجليز». حيث كان الناس في منطقة الخليج والجزيرة العربية في ذلك الزمن، بسبب أميتهم وعدم وجود دوائر أو سجلات خاصة بالمواليد والوفيات، يربطون تواريخ ميلاد أحبتهم بوقائع وأحداث تاريخية معينة مثل سنة الطبعة أو سنة الرحمة أو سنة الجدري وهكذا. 

 فاذا ما علمنا أن «ليلة الإنجليز» هي إشارة إلى الليلة التي ضربت فيها المدمرة البحرية البريطانية «هايسينت Haycinth» ساحل ديرة وأنزلت عليه سرية مشاة نظامية من مائة جندي وضابط وذلك بهدف تأديب أهالي دبي لرفضهم ورفض حاكمهم آنذاك الشيخ بطي بن سهيل بن مكتوم (1906 - 1912) تفتيش منازلهم بحثًا عن السلاح المهرب من إيران وقطر. وبما أن تلك الواقعة حدثت في فجر الرابع والعشرين من ديسمبر 1910 فإن هذا التاريخ هو تاريخ ميلاد شاعرنا في ديرة بمنطقة الراشدية ابنًا لمحمد بن سالم الجمري العميمي وأخًا لصبي وفتاتين يكبرونه سنًا.
ينحدر الجمري من قبيلة آل بوعميم، إحدى قبائل حلف بني ياس. ويقال إن عائلته نزحت إلى الشارقة بعد وقت قصير من ميلاده بسبب ظروف المعيشة الصعبة في دبي آنذاك، لكن الحنين دفعها للعودة إلى دبي بعد ثلاث سنوات. 

 أما دراسته فقد كانت في الكتاتيب، حيث تعلم القراءة والكتابة والنحو والصرف والفقه والحساب البسيط على يد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وتعلم الحديث والقرآن على يد الشيخ أحمد بن سوقات، وذلك أسوة بأخيه أحمد الذي درس قبله في تلك الكتاتيب حتى غدا رجل علم ودين. وقد كان لتتلمذه على يد هذين الرجلين دور في تمكنه من قواعد اللغة، وبالتالي اتجاهه لقرض الشعر وهو في سن الخامسة عشرة، متأسيًا في ذلك بجده وخاله، ومصقلاً موهبته الشعرية بمجالسة كبار شعراء عصره وفي مقدمتهم شاعر الإمارات الشعبي الكبير «الماجدي بن ظاهر»، الذي قال عنه الجمري إنه كان شاعره المفضل دون منازع.

 في الفترة التي رأى فيها الجمري النور كان الأبناء يتحملون مع آبائهم مسؤولية أسرهم منذ الصغر، إذ كان الأب العامل في الغوص مثلاً ينقل أبناءه معه على ظهر السفينة ليؤهلهم ويربطهم بالبحر مبكرًا. ولما كان والد شاعرنا يعمل غواصًا فقد اصطحب ابنه معه إلى البحر لكن دون أن يدفعه إلى الغوص بسبب صغر سنه التي لم تتعدَ العاشرة وقتذاك، مكتفيًا بتشغيله تبابًاعلى ظهر المركب أي مساعدا في عملية فلق المحار وخادم للنوخذة والغواصين.

 في الخامسة عشرة من عمره صار الجمري «غيصًا»، وراح يصارع أهوال البحر كغيره بحثًا عن الرزق، لكن اعتماده على البحر وعدد مرات ذهابه للغوص على اللؤلؤ ازداد بعد أن توفي والده في منتصف ثلاثينات القرن العشرين. كما أن البحر سلبه واحدًا من أعز أصدقائه وندمائه وهو الشاعر والمغني والملحن «محمد بن علي الخطيبي» المكنى بـ «أبوعلي»، وهو ما جعله في حالة نفسية سيئة لفترة طويلة جسدها في مرثية مؤثرة كتبها بعيد تلك الحادثة المأساوية التي كان سببها اختلاف الخطيبي مع نوخذة سفينته والخروج منها غاضبًا إلى البحر بحثًا عن سفينة اخرى ليجد نفسه في مواجهة أمواج ابتلعته.

 من أبيات المرثية اخترنا لكم:
البارحة ما زال جفني يا «علي» من زود لاهوب يشب ويشعلي
باقصى الضمير وطول ليلي ما خفت يلين عاينت الصباح المقبلي
وأنا على نار الوقايد كنني لا تنطفي عني ولا تتبدلي
حتى نحل حالي وكاتم علتي واللي يرى حالي يظن اني خلي
لي من ذكرت أيام دنيا قد مضت هاج الأسف وزهدت عصري الداخلي
بأسباب هذا خفت خونات الدهر وأيقنت أن المستخر كالأولي

 استمرت علاقة الجمري بالبحر والغوص على اللؤلؤ 17 سنة عانى خلالها كثيرًا، لكنه استفاد منها ماديًا واجتماعيًا. إذ تمكن شيئًا فشيئًا من استئجار سفينة والعمل لحسابه والتحول بالتالي من مجرد «غيص» إلى نوخذة. وفي إحدى رحلات الغوص التي كانت تبدأ عادة في يونيو وتنتهي في أكتوبر وتبقى خلالها المراكب بعيدة عن اليابسة طيلة هذه الفترة كاد الجمري أن يخسر بسبب تواضع المحصول مقارنة بتكاليف الرحلة، لولا أن محارة أخيرة وقعت في يده فلما فلقها وجد بداخلها دانة كبيرة الحجم من الدانات التي كان ثمنها يقدر بعشرات الآلاف من الروبيات. وفي هذا السياق يقال إن خبر الدانة انتشر في دبي وبلغ مسامع أحد كبار تجارها آنذاك وهو «محمد بن أحمد بن دلموك» الذي سارع قبل غيره إلى دار الجمري للاستحواذ على الدانة شراء. وبعد مساومات قبل شاعرنا أن يبيع الدانة لابن دلموك مقابل مبلغ كبير بأسعار ذلك الزمن وهو عشرة آلاف روبية.

 قلنا إن الجمري عانى من البحر الذي أخذ منه وقتًا وجهدًا كبيرين وترك له ذكريات انطبعت في خياله ولم تفارقه إلى آخر يوم من حياته. وقد عبر عن هذا في البيتين التاليين: 

 وكم غصت بحر لجته دية انجوم
اجني من اللولو رفيع المساما 
ولا همني بحر وبرد ولا غيوم
لو كان غمق مثل غبة سلاما

 وطبقًا لأحد المصادر، ومن خلال التمعن في المساجلات الشعرية التي جرت بين شاعرنا وصديقه الشاعر «علي بن بطي الظفري» يتبين لنا أن الجمري ترك منطقة ديرة في دبي في نهايات الثلاثينات وانتقل إلى الشارقة ليسقر بها ويتنقل بينها وبين إمارة عجمان، لكن دون أن يترك مهنة الغوص. كما يتبين لنا أن الجمري أحب الشارقة لسعة العيش فيها وقتذاك بدليل قوله:

 في الشارقة أنا صرت ملاك
والله عطاني جنة الحور 
وانهار تسقيني بالأفلاك
أقطف ثمر من لب لغدور 
أنا مسايه هوب ممساك
أنا مسايه في أم خنور

 وكان هذا جزءًا من مساجلات طريفة جرت بينه وبين صديقه الظفري الذي كان يفضل دبي على الشارقة بدليل رده على الأبيات السابقة:

 خسران مصباحك وممساك
لي عدت لا زاير ولا أزور
والا أنا في عز مولاك
أصبح وأمسي زين لخصور 
بوحاجبين وطرف فتاك
من ورد خد وفوع بلور

 بعد سبع سنوات قضاها شاعرنا في الشارقة عاد في عام 1946 الى مسقط رأسه ليتعرف فيها على واحد من أوائل رواد الأغنية الشعبية الإماراتية وهو المطرب «حارب حسن». يقول الأخير عن لقائهما: «تعرفت على الجمري في الأربعينات أثناء الحرب العالمية الثانية. كنت حينها مولعًا بالغناء، ولم أكن يومها قد تعلمت عزف العود، وكان معنا من الأصدقاء زعل بن ذيب، وكنا نجتمع نحن الثلاثة في منطقة سكة الخيل في دبي، وتحديدًا بعد صلاة العشاء حيث كان الجمري يسمعنا قصائده وكنا نلحنها بأصواتنا ونتسامر». هذا علمًا بأن «حارب حسن» سافر في السنة ذاتها (1946) إلى البحرين بحثًا عن الرزق، وكان عمره آنذاك 20 سنة، فاشتغل هناك في دائرة الأشغال كنجار، وتعلم أثناء إقامته العزف على العود، وكان دائم التواصل خلال تلك الفترة مع الجمري، بل حل الأخير ضيفًا عليه في البحرين أكثر من مرة.

 في هذه الاثناء كان سعر اللؤلؤ يتهاوى بسبب ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني، فلم تعد مهنة الغوص على اللؤلؤ مجدية أو تفي بمتطلبات المعيشة التي كانت تزداد صعوبة بسبب الكساد العالمي وظروف الحرب العالمية الثانية وما افرزته من بطالة وغلاء وشح في المواد والسلع الضرورية. لكن الله قدر لأبناء الخليج البديل وهو النفط الذي بدأ يتدفق من أراضي البحرين والكويت والسعودية وقطر، جالبًا معه فرص العمل الكثيرة سواء في القطاعات النفطية أو قطاع الخدمات ذات الصلة. ولهذا هاجرت مجاميع كبيرة من مواطني مشيخات الساحل السبع بلادها إلى دول الجوار الخليجي للبحث عن العمل، تاركة خلفها أسرها وأهلها. وكان من بين هؤلاء سالم الجمري الذي شد رحاله مع بعض أصدقائه إلى الكويت على ظهر مركب شراعي.

 في الكويت عاش شاعرنا نحو سنتين عمل خلالهما في منطقة الأحمدي البترولية وملحقاتها مثل «وارة» و«برقان». وكان عمله في مجال البناء طبقًا لمطلع قصيدة شهيرة له قال فيه: «ما حيدني في دبي شليت بواردي ومربع امتان». ذلك أن البواردي والمربع هي الأعمدة الخشبية الصلبة التي تستخدم في البناء. ولعل ما يعزز مقولة أنه اشتغل في البناء أو عمل في نقل معداتها قصيدة أخرى له كتبها في الكويت من أبياتها: 

 م الأحمدي لي «واره»
صبح وعصر طروق
راكب على السيارة
وآحمل الطابوق
والماء في مطاره
حلو لذيذ الذوق

 أما لماذا ترك الكويت وعاد إلى دبي بعد سنتين تقريبًا، فربما بسبب حنينه إلى بلده وأهله وأصدقائه، أو بسبب سكنه معزولاً وبعيدًا عن التجمعات الشعبية التي اعتاد عليها في دبي، أو بسبب عمله المرهق في البناء ونقل معداته. ونجد كل أو بعض هذه الأسباب في القصيدة التي كتبها بعد مغادرته الكويت والتي اخترنا منها الأبيات التالية:

 لو لي بخت ماسرت لكويت
ولابعد غادرت الأوطان 
أسميك ياحظي ترديت
إبعدتني عن ساحل عمان 
إذا ذكرت الولف ونيت
خرت دموعي فوق الاوجان 
من بعد كيف وانس ومبيت
ومنادمة مدعوج الاعيان 
اليوم حالى فى تشتيت
فى الاحمدى وواره وبرقان
من ذى الحياه أولى ليه ميت
من دون خلاني وندمان

 من الكويت عاد الجمري إلى دبي، لكنه ما لبث أن شد رحاله إلى الخارج مجددًا في عام 1952 تقريبًا، فاختار مدينة الدمام في شرق السعودية للبحث عن عمل يسترزق منه. كانت الدمام وقتذاك محجة الباحثين عن الرزق من أبناء إمارات الساحل المتصالح الذين عرف عنهم تفضيلهم العمل في المنطقة الشرقية على سائر المناطق السعودية الأخرى بسبب عوامل مثل قربها من وطنهم الأم وتشابه عادات أهلها مع عاداتهم، إضافة إلى وجود فرص وظيفية كثيرة بها من تلك التي خلقها اكتشاف النفط في الظهران.

 في الدمام امتهن الجمري في البداية مهنة كتابة العرائض للناس أمام مبنى إدارة الجوازات والإقامة، خصوصًا وأن خطه كان جميلاً وإنشاءه كان قويًا، ناهيك عن أن تلك المهنة لم تكن تتطلب رأس مال سوى بضع أوراق بيضاء مقلمة (كان يطلق عليها ورق حجازي) وقلم حبر من نوع «باركر». وحينما لاحظ كثرة أسئلة زبائنه عن محلات التصوير عرف بالبديهة أن الدوائر الرسمية السعودية تطلب من أصحاب العرائض أن يرفقوا عرائضهم ومعاملاتهم بصور شمسية كان يطلق عليها باللهجة الدارجة «عكوس» ومفردها «عكس».

 وهكذا فطن الجمري أنه لكي يعزز دخله المتواضع من كتابة العرائض فإن عليه افتتاح محل للتصوير قريب من مبنى الجوازات بالدمام. وسرعان ما تمكن من فك ألغاز مهنة التصوير وأسرارها ومستلزماتها من خلال التردد على أحد مواطنيه ممن كانوا يديرون محلاً للتصوير في الدمام. لكنه كان بحاجة إلى دروس عملية، فكان أن سافر إلى البحرين من فرضة الخبر لكي يتعلم ما ينقصه من خبرة في مسائل الإضاءة والتحميض والطبع. وحينما عاد الرجل من البحرين جلب معه كاميرات تصوير ومعدات إضاءة، وما لبث أن استأجر محلاً بالدمام بجوار محل «اسطوانات سهيل» الذي كان يملكه المطرب الإماراتي محمد سهيل، وبدأ في ممارسة مهنة التصوير دون أن ينقطع عن مهنة كتابة العرائض.

 كان الجمري يجلب ما يحتاجه من مستلزمات التصوير من الخبر، وذات مرة وهو عائد إلى الدمام مع بضاعته في سيارة أجرة وقعت للأخيرة حادثة سير توفي فيها ثلاثة ركاب، ونجا هو بأعجوبة. فكانت هذه الحادثة، معطوفًا على ما كان يلاقيه من مضايقات مستمرة من قبل رجال الحسبة بسبب تحريمهم للتصوير، وما كابده من حزن وألم بسبب وفاة زوجته قماشة في دبي وهو بعيد عنها، دافعًا له للعودة إلى دبي على الرغم من أن مدة عمله في السعودية التي قاربت السنوات الثلاث كانت حافلة بالخير والتجوال ما بين الدمام والظهران والمنامة والدوحة، بل والحلول ضيفًا لمدة ثلاثة أيام على الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه في الرياض، ناهيك عن أن تردده على الخبر جعله يتعرف على الشاعر الأحسائي

«إبراهيم بن دعلوج» الذي كان لديه محل للتصوير في الخبر، ويسمع منه قصائد لأهم شعراء شبه الجزيرة العربية من أمثال حمد المغلوث، مبارك بن حمد العقيلي، محمد القاضي، محمد بن لعبون.
خلال إقامته في المنطقة الشرقية انشغل الجمري بلقمة العيش فلم ينظم قصائد سوى قصيدة يتيمة كتبها بعد أن علم بنبأ وفاة زوجته. من أبيات تلك القصيدة:

 لعى الجمري على فرقا ضنينه
كما تلعي زليخة ع الغلام 
ثلاث سنين ماوقف ونينه
ولازاد البكا غير الهيام 
حبيب الروح ياخلانه وينه؟
سقاه البين كاسات الحمام
يلومني ونفسي مستهينة
حزين القلب زايد بي غرامي
على من وسدوا راسه يمينه
وأنا ما عاد ودعته سلامي
حبيبي مثل عين الريم عينه
وحبيبي فوق خدينه وشام
وحبيبي من حسن لونه وزينه
شعاع الخد برق في ظلام
وأنا لجله فؤادي حان حينه
وعلى قلبي هوى غيره حرام

 هذه القصيدة أرسلها الجمري لصديقه المطرب حارب حسن الذي كان يقيم ويعمل في البحرين، فغناها الأخير وسجلها على اسطوانات بيعت الواحدة منها بعشر روبيات، فكانت تلك هي المرة الأولى التي يغني فيها حارب حسن أغنية من كلمات الجمري.
بعد عودته إلى دبي من السعودية مسلحًا ببعض المال وخبرات في التصوير ومعرفة أعمق بالشعر في الجزيرة العربية، افتتح الجمري محلاً للتصوير في «سوق السبخة» حيث ظل يمارس مهنة التصوير لمدة ثلاث سنوات قبل أن يهجرها إلى تجارة الذهب والاقمشة والبهارات والعطور التي بسببها تنقل ما بين دبي والهند وعمان واليمن وزنجبار وسيلان وإيران.

 في أوائل الستينات تعرف الجمري على «محمد علي العماني» صاحب تسجيلات «هدى فون» التي كانت وقتئذ من أشهر محلات التسجيلات في دبي ويصدر منها معظم الأشرطة والأسطوانات الغنائية، حيث كان التسجيلات ترسل إلى اليونان بالبريد كي يتم تسجيلاتها فوق أسطوانات بلاستيكية، ومن ثم ترسل نسخة منها إلى أصحابها للتجربة والحكم عليها، فإذا ما لاقت رضاهم طلبوا كمية منها، علمًا بأن الكمية كانت تتراوح مابين ألفين وثلاثة آلاف أسطوانة، وتباع الواحدة منها بعشر روبيات بالمفرق وخمس روبيات بالجملة.

 في محل العماني سالف الذكر التقى الجمري للمرة الأولى بالمطرب الشعبي الإماراتي «علي بالروغة» الذي كان وقتها صبيا صغيرا جميل الصوت وعازفًا ماهرًا على العود ولا يحفظ سوى قصيدة سعودية مطلعها «بسري بليل أغماسي قصدي أزور الحبيب». يقول الجمري عن ذلك اللقاء إنه استمع لبالروغة وأعجب بصوته وتنبأ له بمستقبل عظيم في مجال الأغنية الشعبية ونصحه بغناء اللون البدوي. كانت تلك بداية فصل جديد من حياة الجمري غلب عليه كتابة الشعر الغنائي، والتعاون مع بالروغة، بدليل أنه في الفترة اللاحقة غنى بالروغة نحو مائة أغنية من أشعار الجمري إبتداء من أغنية «يا علي اعزف بصوت وغن لي» التي يقول مطلعها:

 يا علي اعزف بصوت وغني
لي وأنس فوادي تراني مستهن 
كود همي من فوادي ينجلي
أطرب لصوتك وعزفك والحنين 
ياعلي لي من عودك رن لي
قلبي تذكر وهيضت الكنين 
بي وله حب خل عدملي
أدعج العينين وضاح الجبين

 وهكذا شكل الجمري وبالروغة ثنائيا ذاع صيته في الإمارات بل تعداه إلى دول الخليج المجاورة. حيث ذكر الجمري مثلاً «مرة طلبنا خالد فون من قطر أنا وبالروغة، وطلب منا تسجيل عشرة أغان في جلسة واحدة، فطلبت منه أن يمهلنا حتى الصباح.. وعملت في تلك الليلة عشر قصائد لم يأخذ تلحينها وغناؤها أكثر من خمس ساعات، وفي الصباح غنى المطرب بالروغة بهن كلهن».
وفي هذه الفترة، كان الجمري قد ترك التجارة وامتهن الصيد البحري، الذي سرعان ما تحول إلى مجرد هواية له، فيما صار مصدر رزقه منذ عام 1963 هو العمل موظفا في دائرة الأراضي والأملاك بدبي.

 وحينما بدأت محادثات توحيد إمارات الساحل السبع مع البحرين وقطر في نهاية الستينات تحمس لها الجمري وراح يتابع أخبارها بشغف من إذاعة «صوت الساحل» من الشارقة، التي كانت وقتذاك إحدى الروافد المحلية القليلة لتزويد الناس بما يدور حولهم، وذلك انطلاقًا من حسه الوطني وشعوره بوحدة الدم والتاريخ والدين بين أبناء الخليج. ودليلنا هو القصيدة الوطنية التي نظمها آنذاك ولحنها وغناها صديقه بالروغة، حيث قال فيها:

 خذت الخبر من عند صوت الساحل
والحمدلله اتحد الشيخان
والشعب راضي بالتوافق واحد
وطاب الفرح في قلب كل إنسان
واخبارنا راحت بعيد وداني
وشعوبنا حامين برعمان
من ساحل الدوحة إلى لفجيرة
كلنا اسلام وعصبة واخوان
والباطنة والبادية باكملها 
حتى ظفار وديرة السلطان

 وحينما أعلن عن قيام دولة الإمارات في عام 1971 كان الجمري في مقدمة من ذهبوا إلى رئيس الدولة الشيخ زايد لتهنئته، فطلب منه الراحل الكبير أن يرتجل قصيدة بالمناسبة فقال:

 على بختك على مجدك العلي
هنيا لك أيام السعادة والأقبالي
وهناك رب العرش بالعز والهنا
مادامت الدنيا إلى يومها التالي
ياكاسب المعروف والجود والثنا
ويا سما باسمه المنزل العالي
ويا من رقي كل المعالي بفعله
ويا من بعزمه أصعب الطود ينهالي

 في سنة 1975 بدأ الجمري يشكو من متاعب صحية فسافر إلى بريطانيا للعلاج، ثم سافر للغرض نفسه إلى الهند ومصر في العام التالي. ومع تقدمه في السن ورحيل أصدقائه المقربين قرر الجمري الابتعاد عن الأضواء وبرامج الشعر الشعبي التلفزيونية قائلاً: «العمر له أحكام، وأريد ترك الفرصة للشعراء الشباب».

وظل على هذه الحالة، لا يفعل شيئًا سوى زيارة من تبقى له من أصدقاء أو الخروج إلى الصحراء، إلى أن توفاه الله في 28 فبراير 1991.
لقد تناول الجمري في قصائده مختلف المواضيع، لكنه لم يقترب قط من شعر الهجاء. كما أن أحب فنون الشعر التي مارسها كان شعر التغزل بالمرأة المعتمد على العفة والعذرية. وآية ذلك قصيدته المعنونة بـ «سلمى ومريم» وفيها يقول:

ولو سلمى تغني لي شوية
ترى مريم تغني لي أصوات
ولو سلمى قرت لي بالتحية
ترى مريم قرت لي بالمرسلات
ولو سلمى سقتني من ثغرها
ترى مريم مطالعها شفاتي
وله قصيدة غزل جميلة أخرى قال فيها:
بو يديل اشقر لاس
ونشل عن مضمره زاد
والحواجب سمر أقواس
والخشم كالسيف منقاد

 بقي أن نعرف أن الجمري، الذي عرف بالطيبة والتواضع وسعة الصدر ومساعدة الآخر، تزوج خلال فترة حياته 18 مرة، دون أن يجمع في زيجاته بين زوجتين، لكنه لم يرزق إلا بثلاثة أولاد هم محمد وحمد وعجلان بالإضافة إلى ابنة سماها حمدة. أما كثرة زيجاته فتعزى إلى ظروف السفر والتنقل الدائم وعدم الاستقرار في مكان واحد.