وليد أبي مرشد  

ربما هي المرّة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية التي لا تسفر نتيجتها عن انتقال الرئاسة من حزب إلى حزب، بل من حزب إلى فرد.
خلافًا لكل أسلافه من الرؤساء الأميركيين، يُعتبر الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، «نسيج وحده». أما تبني الحزب الجمهوري لترشيحه فلم يكن أكثر من «شكلية» انتخابية لا تستتبع، كما يبدو، تقيّده المطلق بتوجهات الحزب - غير المرتاح أصلاً إلى كثير من مواقفه، وربما لا يستوجب التزامه بثوابت المؤسسة الأميركية أيضًا.
بعد أن جمع ترامب «المجد من طرفيه»: ملكية أضخم الثروات الشخصية ورئاسة أعظم دول العالم، لم يعد مستساغًا الاستخفاف بالدور الذي يتطلع لأن يلعبه في البيت الأبيض. ويبدو أنه متشوق لهذا الدور إلى حد البدء بممارسته قبل تنصيبه، رسميًا، رئيسًا للبلاد، فكان أن تجاوز الاعتبارات البروتوكولية ليجري اتصالاً هاتفيًا غير مسبوق مع خصم الصين اللدود، رئيس دولة تايوان (الصين الوطنية)، وليذهب إلى حد التلميح بإعادة النظر بسياسة «الصين الواحدة».
مواقف ترامب الخارجية تندرج في خانة شعاره الشهير: «الولايات المتحدة أولاً». ولكن اهتمامه بالشرق الأقصى، بموازاة اهتمام الرئيس أوباما (وإنْ من منطلقات متباينة) وفي مرحلة دقيقة هي مرحلة التسلم والتسليم بين إدارتين، يوحي بوجود توجه أميركي لإعطاء الأولوية في دبلوماسية واشنطن الخارجية لمنطقة الشرق الأقصى (أو محور المحيط الهادي) على حساب الشرق الأوسط.
لا جدال في أن الخلقية الجغرافية - السياسية لهذا التوجه تعود إلى الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والتكنولوجية المتنامية لدول الشرق الأقصى. لكن هذا التوجه قد لا يكون براء من دافع آخر هو إشاحة النظر عن إحباطات الدبلوماسية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
أي جردة موضوعية لمردود دبلوماسية واشنطن الضئيل في الشرق الأوسط، على مدى العقدين المنصرمين، تثبت فشلها في تحقيق اختراق يُذكر لمشكلاته الرئيسية: تسوية القضية الفلسطينية لم تتقدم خطوة واحدة حتى في إطار الاقتراح الأميركي «لحل الدولتين»، بل على العكس تراجعت سنوات إلى الوراء. غرس الديمقراطية (التورية الأميركية لبسط النفوذ السياسي) في أراضي الشرق الأوسط القاحلة لم يعط ثمارًا فحسب، بل أفرز نتائج عكسية انسحبت على ظاهرتين «غير أميركيتين»: ازدهار الأنظمة العسكرية الأوتوقراطية، وانتعاش التيارات المتشددة المتلطية بالإسلام.
واشنطن تعيش اليوم أجواء «تحلل» من التزاماتها حيال الشرق الأوسط. وهذا المنحى الذي بدأ مع الرئيس باراك أوباما يبدو مرشحًا للاستمرار مع الرئيس المنتخب دونالد ترامب.. لولا مشكلة إيران النووية التي يستعد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، للاستفاضة في شرح مخاطرها في لقاء قريب مع ترامب. قد تحولت تعقيدات الشرق الأوسط السياسية والعرقية والمذهبية، خصوصًا الإرهابية، إلى عبء تتمنى واشنطن اليوم إشراك روسيا - إن لم يكن توريطها - في تحمل تبعات مواجهته. ولكن، قبل تبرير واشنطن، لا بد من التساؤل عما قدمته للقضايا العربية المفترض ألا يؤثر التعامل معها على «أمن» حليفها، إسرائيل.
على سبيل المثال، كيف تفسّر واشنطن «تسليم» العراق للنفوذ الإيراني يوم كانت هي الآمر الناهي في بغداد، إلا إذا كان هذا الإجراء جزءًا من مخطط لتقسيم العراق مذهبيًا وعرقيًا؟
وكيف تفسر واشنطن تراجع الرئيس أوباما عن تهديده الشهير للنظام السوري، عام 2013، بنصيحة روسية - إلا إذا كان إرضاء لصديقه الجديد، إيران؟ (استنادًا إلى صحيفة «وول ستريت» الأميركية، تراجع أوباما عن وعيده بعد أن هددته إيران بالتراجع عن توقيع الاتفاق النووي في حال تنفيذه).
وفي السياق نفسه، بماذا تبرر واشنطن إحجامها عن دعم دور حليفها الأطلسي، تركيا، على الساحة السورية إلى حد دفعها إلى التنسيق مع خصمها وخصم واشنطن، روسيا، وزيادة النزاع السوري تعقيدًا؟ وإذا أضيفت إلى إحباطات الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط تقصيرها في إيجاد تسوية ما للقضية العربية الأم، فلسطين، يمكن القول إن واشنطن استحقت أن تتحلل من مشكلات الشرق الأوسط، خصوصًا أن توقيت هذا الإجراء بات مناسبًا لحليفها الموثوق، إسرائيل، بعد أن تكفلت حروب العرب العبثية بإزالة أي خطر عسكري يتهددها.
تبقى نافذة واحدة مفتوحة على عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط في عهد دونالد ترامب: نافذة إيران. وهذه تعرف إسرائيل كيف تفتحها على مصراعيها.