عبد الله السويجي

انطلقت صباح يوم أمس الأول السبت أعمال الخلوة الوزارية الموسعة في منتجع باب الشمس، وعلى أجندتها محاور حول تنويع الاقتصاد وتطوير قطاعاته وصولاً إلى استدامته، وبناء أجيال قادرة على قيادة اقتصاد وطني يتسم بالتوازن.


حكومة الإمارات ورجالات الدولة يجتمعون في جلسة عصف ذهني بعيداً عن المكاتب الرسمية والبروتوكولات، وأقرب إلى تجمّع الأسرة الواحدة للتباحث في موضوع مهم واستراتيجي ومصيري، يتعلق بتنويع الاقتصاد وتطوير القطاعات القائمة وتنمية الموارد البشرية لمواصلة النهوض بوطن أضحى نموذجاً يُحتذى في التنمية والإدارة والمحافظة على الإنجاز.


وتنويع الاقتصاد ضرورة حتمية تمليها نظرية نضوب النفط، ولهذا قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في القمة الحكومية الثالثة التي عقدت في شهر فبراير/شباط من عام 2015: «إننا اليوم نفكر ونخطط لخمسين سنة مقبلة ولمصلحة الأجيال، عبر بناء اقتصاد متنوع ومتين ومستدام، لا يعتمد على الموارد التقليدية ويفتح آفاقاً واعدة تسهم في تعزيز مقومات وقدرات الدولة.. ورهاننا الحقيقي في الفترة القادمة هو الاستثمار في التعليم. نحن نعيش فترة لدينا فيها خير ويجب أن نستثمر كل إمكاناتنا في التعليم لأنه سيأتي وقت بعد خمسين سنة ونحن نحمل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال هل سنحزن وقتها؟ إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحاً فأنا أراهن أننا سنحتفل بتلك اللحظة.»
وهذه الخلوة التي انطلقت السبت الماضي ليست الأولى التي تخاطب المستقبل، ففي شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2013، انتظمت خلوة وزارية في جزيرة صير بني ياس، المحمية الطبيعية الجميلة الرائعة، وناقشت القيادة الأفكار التطويرية في قطاع التعليم والقطاع الصحي.


ويحلل فريق عمل متخصص كل المشاركات، ويزود مجلس الوزراء بها لمناقشتها أثناء الخلوة الوزارية، كما سيتم الإعلان عن المبادرات والبرامج والأفكار التي سيصار إلى اعتمادها نتيجة للعصف الذهني مباشرة، بعد الانتهاء من الخلوة الوزارية .
&

هذه الاجتماعات تُعقد من أجل المستقبل، وهي استباقية بالمعنى الاستراتيجي، ووقائية بالمعنى الأمني، وفي الحالتين فإنها تدل على يقظة القيادة وتفكيرها الذي يتجاوز الحاضر نحو الآتي، الذي سيكون من دون أدنى شك مزدهراً، لأن التخطيط له يتم على نار هادئة وفي خلوات تسودها المحبة والحرص على استدامة البناء.


ويلاحظ في هذه الاجتماعات التسلسل والمتابعة، ففي عام 2013 نوقشت محاور لتطوير قطاعي التعليم والصحة، وفي عام 2015 تم تخصيص القمة الحكومية للتعليم أيضاً، وطُرحت أفكار للابتكار، وكان عام 2015 عام الابتكار بجدارة، ثم وجه صاحب السمو رئيس الدولة بأن يكون عام 2016 عام القراءة، والآن يبحث المجتمعون في جزيرة صير بني ياس تنويع الاقتصاد. وهذا التسلسل مدروس في إطار التخطيط للمستقبل، وعدم انتظار المفاجآت، فقد ولى زمن سياسة ردة الفعل وحل محلها التفكير الاستباقي والمبادرات التنموية التي تؤصل للفكر المستدام.

إن النفط سلعة قابلة للنضوب، ناهيك عن تقلّب أسعاره والأخطار المتنوعة التي تهدد عمليات إنتاجه وتصديره، إضافة إلى ظهور مصادر جديدة وبديلة للطاقة، فبعد خمسين عاماً، لن تصدّر الإمارات، ومعها دول نفطية كثيرة، آخر برميل نفط فحسب، وإنما ستكون هناك مصادر بديلة للطاقة، والعالم يعمل عليها الآن استعداداً للمستقبل، ولهذا فإن تنويع الاقتصاد أمر حتمي يجب أن يبدأ من الآن، وأوله تهيئة الموارد البشرية لإدارة وإنتاج اقتصاد جديد لا يعتمد على النفط، فحركة الاقتصاد العالمي لا تدور بفعل الذهب الأسود وحده، وإنما بفعل موارد أخرى، وإذا درسنا اقتصادات العديد من الدول مثل الصين مثلاً، سنجد أن اقتصادها لا يعتمد على النفط، بل إن مواردها الطبيعية لا تتناسب مع حركة الإنتاج الهائلة التي تغزو بها أسواق العالم، وكذلك دولة مثل اليابان، التي تعتمد على القدرات البشرية والابتكار في التقنيات، وحتى دول مثل سويسرا والسويد، اللتين تستقطبان أموال العالم، لا تعتمدان على النفط، بل على التميز في إنتاج صناعي متطور. نحن في الخليج وحدنا الدول التي تبني مشاريعها واقتصاداتها على النفط، ولهذا يتقلب اقتصادها وفق تقلب أسعاره، وقد آن الأوان، بعد تحقيق مستوى متقدم في التنمية البشرية أن نبدأ في وضع النفط جانباً والبحث عن مصادر جديدة لتنويع الاقتصاد، وهذا يحتاج إلى خلوات مستمرة وخطط استراتيجية دقيقة، وعصف ذهني دائم، وهذا ما تفعله الحكومة في الإمارات، وتتيح فيه المشاركة للشعب عبر تخصيص منصات تستقبل الأفكار المتميزة، فرُب فكرة تصنع اقتصاداً وتنهض ببلد.

ويأتي ضمن الاستعداد للمستقبل المحافظة على الموارد الطبيعية، ويتزامن نشر هذا المقال مع احتفالات الدولة بيوم البيئة الوطني، التي تشمل إطلاق برامج توعوية وإرشادية للحد من هدر المياه والطاقة، وترشيد استهلاكهما، وتغيير نمط الحياة الاستهلاكي إذ يستهلك البعض المياه بطريقة عشوائية؛ فيغسل سيارته بمئات الليترات، ويحلق ذقنه بعشرات الليترات، بينما كان آباؤنا يفعلون كل ما نفعل باستهلاك أقل من نصف في المئة.


علينا ونحن نستعد للمستقبل مراقبة كيفية استهلاكنا للموارد الطبيعية، وتشمل المياه والطاقة، والتربة، والثروات البحرية، كما علينا مراقبة استهلاكنا لمواردنا البشرية. صحيح أن الأعمار بيد الله، لكن الشباب يرمون بأنفسهم إلى التهلكة، فيخسرون حياتهم، ويتركون الأسى واللوعة في نفوس عائلاتهم، ويتسببون في نقصان الطاقات البشرية التي تؤهلها الدولة وتعمل على صيانتها وتحضيرها للمستقبل. ولهذا يمكننا القول إن كثيرين يستهلكون أرواحهم على الطرقات، من دون أن يشعروا بأنهم الثروة الحقيقية للبلاد.

الاستعداد للمستقبل يشمل كل تفاصيل حياتنا ودقائق سلوكياتنا، لنعمل معاً إذاً، حكومة وشعباً، لاستقبال السنوات القادمة بحكمة وروح عالية، فننتقل من باب الشمس إلى التوهج الحقيقي المستدام.
&