محمد عاكف جمال
&
الخروج من الأزمات الخانقة والمزمنة، يتطلب طروحات متقدمة ومتميزة وعميقة وشاملة، تحمل نكهة المستقبل، ويتطلب قيادة تتسم بالعزم والحزم والشجاعة، العراق نموذج للدولة التي تعاني من هكذا أزمات، الحديث عنها ليس بالجديد.
&
إلا أنه أخذ بعداً جديداً، مع مجيء الدكتور حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، رافعاً أجندة الإصلاحات، وها هو بعد مرور ما يزيد على ثمانية عشر شهراً، يفاجئنا في التاسع من فبراير الجاري، بدعوته إلى استبدال الحكومة الحالية بحكومة تكنوقراط، داعياً مجلس النواب والقوى السياسية للتعاون معه من أجل إجراء تغيير وزاري جوهري، يضم شخصيات مهنية وأكاديمية.
&
العبادي في دعوته هذه، يقر بفشل حكومته التي سبق أن وصفها هو بالذات عند تشكيلها أمام المجلس النيابي، بأنها حكومة تكنوقراط، وهي حقاً كذلك، إلى حد بعيد، إذا تأملنا السيرة الذاتية لمن يشغل حقائب الصحة والنقل والتعليم العالي والتربية والنفط والكهرباء والدفاع.
&
أجندة الإصلاح التي حملها العبادي، والتي كانت مدعاة لبعض التفاؤل لبعض الوقت في حينه، اقتصرت على بضعة إجراءات تقشفية، وإصدار بضعة تشريعات ذات أهمية ثانوية، وها هو يختزلها باستبدال حكومة التكنوقراط التي يترأسها بحكومة تكنوقراط أخرى.
&
دعوة العبادي فاجأت كتلته النيابية، حزب الدعوة، التي ادعت أنه لم يستشرها، وتباينت المواقف إزاءها، وتسببت بحدوث انقسامات داخل «التحالف الوطني» نفسه، الذي ينتمي إليه، تتراوح بين تأييد مشروط بآليات، وسقف زمني..كما ارتأت ذلك كتلة الأحرار التي يتزعمها مقتدى الصدر، وبين شمول رئيس الوزراء نفسه بالتغيير، كما طرحت كتلة المواطن، التي يتزعمها عمار الحكيم، مؤكدة على أن الاختيارات الجديدة ينبغي ألا تبتعد عن إرادة الشعب في رسالة واضحة، بأن الخيار ليس للعبادي، بل لمجلس النواب.
&
في حين استقبلت كتلة الوطنية التي يتزعمها إياد علاوي، هذه الدعوة ببرود، واعتبرتها شراء للوقت، وتأجيل لإعلان الهزيمة، وتوجس مما هو قادم. أما التحاف الكردستاني، فقد أعرب عن تأييده للإصلاحات الشاملة، منوهاً بضرورة مراعاة الاستحقاقات الانتخابية والتوازنات القائمة.
&
العبادي لن يكون حراً في وضع دعوته موضع التنفيذ، فقد كان التحالف الوطني، وهو الكتلة الأكبر في المجلس النيابي، في منتهى الوضوح، حين وضعه أمام خيارين، أحدهما عرض رؤيته للإصلاح على التحالف، وثانيهما قبول رؤية يعمل التحالف نفسه على وضعها، من هذا المنطلق نستطيع القول إن دعوة العبادي قد أُجهز عليها قبل أن ترى النور.
&
والحقيقة أن رئيس الوزراء العراقي لن ينجح في عملية الإصلاحات، حتى لو حصل على الدعم من التحالف الوطني، وذلك لأنه يفتقر لرؤية سليمة لواقع الحال، وإلى الأسباب الجوهرية التي عملت على انحدار العراق إلى هذا الدرك، فلجأ في دعوته هذه إلى الربط بشكل غير موضوعي، بين نجاح الإصلاحات وبين وزير متخصص يدير شؤون وزارته.
&
ليس هناك دليل على صحة الادعاء بأن حكومة التكنوقراط أفضل من غيرها، فالوزير ليس له دخل بالتفاصيل الفنية للمهام وآليات تنفيذها في وزارته، فذلك متروك لأجهزتها المتخصصة، التي لا تتغير بتغير الوزراء، وهي تضم عادة كوادر وكفاءات مهنية وإدارية شديدة الالتصاق بمهام وظائفها.
&
مهمة الوزير هي وضع اللمسات التي تتفق مع الرؤى والأجندة التي يحملها الطاقم الوزاري بأجمعه، ليضطلع بمهمة القيادة وإدخال ما هو جديد من مناهج وأساليب عمل ذات صلة بتطوير العمل في وزارته وتحسين طرائق التعامل مع القضايا الهامة فيها، والتي تتناول التخطيط والتنظيم والرقابة والتقويم، ووضع الموازنة المالية والاستخدام الأفضل للموارد المتاحة المادية والبشرية والمعلوماتية، وتعزيز قنوات التواصل مع الوزارات الأخرى..
&
والاستخدام الأفضل للوقت، واتباع الأساليب الحديثة في صنع القرارات. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر ليس عسكرياً، وهو ليس استثناء، فلم يشغل هذا المنصب سوى أشخاص مدنيين..
&
كما لم يكن من شغل وزارة الدفاع الفرنسية السابقة رجلاً يرتدي بزة عسكرية ويحمل على كتفيه عدداً من النجوم، تشير إلى رتبته جنرالاً أو مارشالاً، بل كان سيدة رقيقة، هي ميشال آليو ماري، كما لم يكن وزير الخارجية البريطانية الأسبق ديفيد أوين أكاديمياً متخصصاً في العلاقات الدولية، بل كان طبيباً.
&
الدعوة للإصلاح وحمل أجندته لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، من غير وجود رؤية لذلك، تتجاوز ما هو تقني إلى ما هو سياسي يتعلق بالخلل البنيوي في العملية السياسية، وتضع موضع التساؤل كفاءة ونزاهة ونوايا الطبقة السياسية المسيطرة على مداخلها ومخارجها..
&
فذلك هو السبب الجوهري الذي أفقد العراق استقراره وسيادته، ليصبح بلداً ينخره الفساد على جميع المستويات، مباحاً للآخرين، فاقداً قدرته على الوقوف موحداً سامحاً لمختلف المليشيات والعصابات لتعبث بأمنه وأمن مواطنيه، وسط عجز الدولة في فرض وجودها وهيبتها.
&
الإصلاح في العراق لا تقتصر ضرورته على المستوى المحلي، رغم الأهمية الاستثنائية لذلك، لارتباطه بالظروف التي تتعلق بحياة المواطن اليومية وبأمنه، بل تتجاوز ذلك إلى المستوى الإقليمي..
&
حيث تشهد المنطقة في الوقت الراهن حالة عدم استقرار وتشنجات وغليان وحروب لم تشهدها من قبل، بغية تغيير الأطر الاستراتيجية التي تتحكم برسم معادلات التوازن فيها. وتسود فيها أجواء ترجح الاتجاه نحو التصعيد، وليس نحو التهدئة، فبؤر الصراع مرشحة للانتشار إلى مواقع جديدة، ربما لن يكون العراق بعيداً عنها، وهو في حالة الضعف التي هو فيها.
&