عادل درويش& &

المشهد أول من أمس السبت 9 أبريل (نيسان) قد يكون مألوفًا في بلدان العالم الثالث، لكن في وايتهول، قلب الحكومة البريطانية حيث دواوين الحكومة أمام بوابة داوننغ ستريت حكاية أخرى. مظاهرات تهتف «ارحل» «استقل» موجهة إلى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون. حتى في قمة المظاهرات المليونية المناهضة لرئيس الوزراء العمالي الأسبق توني بلير كانت ضد سياساته (متهمًا بتضليل البرلمان، حول الأسباب الحقيقية لحرب العراق) وضد مشاركة أميركا في حرب العراق.

الصحافة أخذتها على محمل الطرافة، فهم بضعة آلاف، وليسوا مظاهرة كبيرة بقياس حجم مظاهرات في أمور أقل خطورة كـ(منع صيد الثعالب، أو حماية السنجاب الأحمر من السنجاب الرمادي الجديد القادم من أميركا، والذي يتكاثر على حسابه).

المؤشر عدم كفاءة كاميرون وفريقه في إدارة الأزمات، والمفارقة أن المهنة الأصلية للشاب كاميرون، قبل دخول السياسة منذ 15 عامًا، كانت العلاقات العامة. وباعترافه شخصيًا أول من أمس السبت، في مؤتمر الربيع المصغر لحزب المحافظين، أن الأسبوع الماضي «كان الأسوأ في حياته».

المتظاهرون يحاكون الآيسلنديين في ريكيافيك قبل أيام عقب نشر ما يعرف بـ«أوراق بنما». ملايين الوثائق المسربة من شركة OFF - SHORE أو شركات مسجلة خارج شواطئ أو خارج حدود البلد الأصلي لأغراض تقليل الضرائب التي يدفعها الأفراد والمنشآت على الأرباح.

أحد العاملين في الشركة - وهي الأكبر بين آلاف الشركات المخصصة لهذا الغرض - سرب ملايين الوثائق إلى مجلة «دير شبيغيل» الألمانية، ونقلتها الـ«غارديان». رئيس وزراء آيرلندا تهرب من الضرائب ووضع الأموال في حسابات سرية، فخرجت المظاهرات في ريكيافيك تحاصر البرلمان وتطالبه بالاستقالة، فأقاله رئيس الدولة.

مئات من زعماء العالم وساسته في بريطانيا والمشاهير والرياضيين والفنانين وردت أسماؤهم في هذه الأوراق. بل المفارقة أن كبار دعاة الاشتراكية وزعماء اليسار كعمدة لندن السابق ليفنغستون، ووزير مالية اليونان السابق يستثمرون مئات الآلاف في الشركة المذكورة. الصحافة، يسارًا ويمينًا، محافظة ومعارضة من العمال والليبراليين، نسيت هؤلاء ونشبت مخالبها في المستر كاميرون. والده الراحل إيان كاميرون ترك له وديعة استثمار في شركة «أوف - شور»، وورثها كاميرون، دافعًا ضرائب أقل من الضرائب المدفوعة لو كانت مسجلة في بريطانيا.

والفارق الضريبي هامش كبير من الربح هو أساس الاقتصاد المالي لشركات الـ«أوف شور». أي أنها في بلدان كجزر القمر، وجزيرة مان، وجيرسي وغرينزي، وجبل طارق، وفيرجين إيلان، وبنما. بلدان مواردها الطبيعية ضعيفة وبنيتها التحتية هشة لا تستطيع أن تؤسس اقتصادًا صناعيًا، لكن سياستها الضريبية تتيح لهذه الشركات تقليل الأعباء الضريبية على المستثمر في البلدان ذات الضرائب العالية، خصوصًا بريطانيا وبلدان أوروبا. وبلا هذا النوع من الاقتصاد، تفلس هذه المجتمعات ويجوع سكانها أو يهلكون.

لكن هناك من يستغل هذه الشركات في حسابات سرية من المخدرات والجريمة المنظمة وتجارة السلاح وترهيب البشر. وبقع الجريمة تظهر على الثياب القانونية، ويشك الناس فيمن يستخدم هذه الشركات.

اللوائح تفرق بين (tax evasion) التهرب من دفع الضرائب، وهي مخالفة في القانون الجنائي و(tax avoidance) تجنب دفع مزيد من الضرائب، وتسمح به اللوائح الضريبية وهو ما تقوم به شركات الـ«أوف شور».

الممارسات قانونية. وعندما أسرع كاميرون مساء السبت (لتنشرها صحف الأحد) بنشر كل أوراقه الضريبية، وما حصل عليه في عشر سنوات (100 ألف جنيه، ورثها من أبيه في الوديعة، باع أسهمها وحقق ربحًا قدره 10 آلاف جنيه دفع عليه ضرائب، و200 ألف جنيه هدية من أمه، ودخل سنوي 47 ألف جنيه من تأجير منزله السابق - حيث يعيش من 2010 في داوننغ ستريت - إلى جانب مرتبه السنوي كرئيس وزراء 150 ألف جنيه.. ودفع ضرائب مقدارها 67 ألف جنيه العام الماضي)، وهي خطوة غير مسبوقة أن ينشر رئيس حكومة حسابه الشخصي.

هناك 300 موظف دولة (يأتمرون بتعليمات كاميرون) تزيد دخولهم على ضعفي دخل رئيس الوزراء. دخل كاميرون في عشر سنوات يعتبر مبلغًا تافهًا، مقارنة في الفترة نفسها بقرابة ألف من كبار العاملين في الـ«بي بي سي»، وكبار الكتاب والصحافيين (إلى جانب البدلات ومصاريف النفقات التي يتلقونها ولا يتلقاها كاميرون).

معظمنا يستثمر في معاش أو شهادات ادخار استثمارية، تودع أموالها في مثل الشركة المذكورة التي سببت الصداع والفضيحة لرئيس الوزراء، فخبراء المال والاستثمار في زمن العولمة يبحثون عن أعلى عائد بأقل ضرائب تدفع. باختصار لم يرتكب كاميرون أية مخالفات قانونية، فلماذا الضجة، ولماذا أسرع بنشر تفاصيل إقراره الضريبي والمالي لا يرضى أي أحد نشرها؟

الأزمة من صنع المستر كاميرون نفسه، وقلنا في صالات الأخبار: «يستاهل». وطريقة مكتبه في إدارة أزمة تسريب «أوراق بنما» يجب أن تدرس في معاهد العلاقات العامة كنموذج لما يجب ألا يفعله أي مدير علاقات عامة.

المكتب الصحافي للحكومة بدا وكأنه يحاول إخفاء شيء. أولاً قالوا لنا ما ورثه عن والده أمر شخصي، ردنا بأن رئيس الوزراء يتزعم حملة لإنهاء التهرب من الضرائب، ويحاضرنا ليل نهار عن الشفافية. ثم التقى كاميرون بصحافي تلفزيوني ليفصح عن بيع أسهم وديعة والده.. أي أن المعلومات وصلت الصحافة بـ«القطارة»، وكلما شك الصحافي في أن الساسة أو الحكومة تحاول إخفاء شيء بحث ونقب ونبش.. وأهم قواعد العلاقات العامة أنه عند تسرب معلومات لا تحاول إخفاءها أو إنكارها، بل أغرق شارع الصحافة بأكبر فيض من المعلومات. الخطأ الأكبر الذي ارتكبه كاميرون - رغم أنه قبل نشر «أوراق بنما» محبوب أصلاً من الصحافيين - أنه حاول استغفال الأمة والشعب. فإلى جانب أنه لم يحصل من الاتحاد الأوروبي على أي إصلاح من الإصلاحات التي وعد بها وتعيد السيادة الوطنية إلى بريطانيا، بينما يقود حملة لإقناع الأمة بالتصويت على البقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن حكومته تستغل السلطة وتخصص 9.5 مليون جنيه (14 مليون دولار) من أموال دافعي الضرائب لطبع كتيب يوزع على كل بيت، مدعيًا أنها «حقائق ومعلومات عن الاتحاد الأوروبي»، بينما كلها بروباغندا تخيف الناس بأهوال وكوارث، إذا صوتوا بالاستقلال عن بروكسل.

وكانت القشة التي قصمت ظهر بعير شارع الصحافة. والصحافة البريطانية مرآة تعكس المزاج البريطاني (وقد يخالف صاحب الجريدة الذي يحني إرادته لموقف القارئ وإلا سيخسره) الذي رأى في مطبوعة بروباغندا الاتحاد الأوروبي بأموالهم، محاولة من رئيس الحكومة الاستخفاف بعقولهم، أمر لا يتسامح فيه البريطاني، الذي تنصحه الصحافة بـ«إعادة مظروف كتيب الحكومة غير مفتوح إلى مرسله المستر كاميرون في 10 داوننغ ستريت».

&

&

&