راغدة درغام

ضمن دلالات زيارة الوفد السعودي الرفيع المستوى واشنطن وكاليفورنيا ونيويورك هذا الأسبوع، هو أن ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز عازم على الاستثمار في إنماء علاقات سعودية – أميركية في شتى المجالات، وراغب في النظر في ما يتطلبه إصلاح الانطباع عن السعودية في الأذهان الأميركية والغربية عموماً. المهمة ليست سهلة لأن هناك تلقائية لدى المفكرين والإعلاميين وصنّاع القرار والأكاديميين في تعاطفهم الجديد مع إيران، وفي غضبهم المستمر منذ إرهاب 9/11 وذلك عبر شن الحملات الدعائية لتحميل السعودية المسؤولية عما قام به بعض مواطنيها. هذا الموقف أتى نتيجة حملات دعائية مدروسة ومموَّلة ومدعومة سياسياً هدفها إبراز «الاعتدال» الإيراني الآتي مع الاتفاق النووي والتغطية على كل التجاوزات الإيرانية في سورية والعراق ولبنان. غابت السعودية عن المعركة الدعائية التي جنّد لها دعاة التحريض الطائفي والمذهبي الذين قرروا أن عدو الغرب هم السُنَّة. اختارت السعودية أن تتغيّب اعتقاداً منها، في مرحلة ما، أن كل الاستثمارات في صوغ علاقات ودية لخدمة صورة السعودية في واشنطن ذهبت هدراً، ولا داعي لها. اليوم، يبدو أن هناك ملامح تفكير تجددي في كيفية التعويض عن هذا الغياب الذي خدم «الخصم» الإيراني في الساحة الدعائية الأميركية. هذا التوجه يتطلب نقلة في كيفية التعامل وفي نوعية الأداء. الفرص متاحة، لا سيما على عتبة الانتقال إلى إدارة جديدة في واشنطن، إنما الخصم الدعائي ضخم اكتسب الخبرة. ثم إن العاطفة الأميركية هذه الأيام غير جاهزة لأن تكون متسامحة، لا سيما أن الإرهاب عاد إلى الديار الأميركية عبر شاب مسلم ولد في ضاحية «كوينز» في نيويورك، أصوله أفغانية، قرر أن يقتل الأبرياء ويقدم خدمة إلى التطرف الراديكالي الإسلامي وكذلك للراديكالية من أي دين كان.

شخصية الأمير محمد بن سلمان شقّت طريقها إلى ترحيب أميركي، إذ أتت بجديد من حيث الصورة والمضمون. فالأمير الشاب جمع بين الحداثة والتقليد وبدا مرتاحاً مع نفسه، واثقاً. فهو صاحب فكرة «الرؤية 2030». إنه الأمير الذي يجرؤ على تغيير جذري في العلاقة بين المواطن والدولة. فهذه الرؤية هي ورشة عمل جماعي نحو نهج ليبرالي اقتصادي واجتماعي يحل مكان تقليد التأميم والريعية والاتكالية.

على المستوى الحكومي، كان الاستقبال على أعلى المستويات وفي أجواء استضافة عائلية في بعض الأحيان. المزاج العام أفاد بأن إدارة باراك أوباما قررت ترطيب الأجواء والعمل نحو علاقة أقل جفاء، وذلك كي لا ترث الإدارة الآتية أعباء سياسات الإدارة الحالية.

القرار العام في واشنطن حمل عنوان محاولة استعادة بعض ما كانت عليه العلاقة الأميركية مع السعودية بعدما مرّت بمراحل عصيبة نتيجة التحوّل الجذري الذي اختاره أوباما في العلاقة الأميركية – الإيرانية بلا إيضاح للدول الخليجية، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، أين مكانها في الخريطة الجديدة للعلاقات الأميركية – الخليجية – الإيرانية كما تتصورها واشنطن.

يسمّون ذلك، في الكواليس الفكرية، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بمعنى استعادة بعض ما كانت عليه العلاقة الأميركية – السعودية. ما لا يستوعبه البعض في المجالات الفكرية والإعلامية هو أن ما في ذهن القيادة السعودية التي توجّهت إلى واشنطن هذا الأسبوع ليس مجرد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. إنها تريد علاقة تجددية ذات قواعد مختلفة عن السابق وتريد أن تكون شريكاً في صوغها. الأمر ليس سهلاً أبداً، لا سيما أن الذين يريدون أن يفسدوا مشروعاً كهذا يتأهّبون لحرب نمطية على السعودية كوسيلة لمنع صوغ علاقة أميركية – سعودية تعكّر مياه العلاقة الأميركية - الإيرانية أو أجواء الشراكة الأميركية – الروسية في سورية.

تقليدياً، تتبنى السعودية سياسة الرد بدلاً من الإقدام في حروب ما يسمى بـ «البروباغاندا» الدعائية، فتبدو مدافعة عن نفسها بعدما زجّها الخصم في قفص الاتهام. الآن، هناك مؤشرات إلى قيام القيادة الشابة بمساءلة جدية وصادقة وعميقة حول ما أسفر عنه التقليد وما تتطلبه الاستراتيجية الحديثة. إنما هذا ما زال في مطلع الطريق ويبدو أكثر تدريجية من وثبة الرؤية التي أسدلت الستار على عهد التدريج بكل هدوء. هذا حتى الآن، ولعله قيد التغيير الجذري. الاستراتيجية في المجالات الإعلامية والفكرية تتطلب قفزة لأن استراتيجية محور إيران وروسيا والنظام السوري و «حزب الله» جاهز لمضاعفة الأذى الذي ألحقه بالسعودية وفق برنامج بدأ منذ سنوات يحظى بتمويل رهيب.

فوفق مذكّرة أعدتها الشركة الإعلامية الكبيرة «كوانتم» Quantum، هناك جهات عدة منخرطة في بروباغاندا موجهة ضد السعودية. الآلة الروسية تبدو أكثر فاعلية ومهنية وتنفق نحو 450 مليون دولار سنوياً وهي تتوجه لنحو 30 لغة وتوظف 600 شخص منذ إنشائها عام 2012، وفق المذكرة. أما الآلة الإيرانية فإنها أكثر حيوية، إذ تنفق 900 مليون دولار تقريباً، إنما ليس فقط على المستمعين والمشاهدين في العالم، كما جاء في المذكرة. كلاهما يستهدف السعودية بالدرجة الأولى ويعمل بصورة مستمرة على الربط بين السعودية وتمويل الإرهاب ويقدم بشار الأسد كبديل من «داعش» والإرهاب. هذه الحملة الدعائية تبعد الأضواء الإعلامية عن أحداث سورية ودور إيران في مآسيها.

ما تقوله الشركة المختصة بالإعلام الاستراتيجي، «كوانتم» هو أنه من الضروري للسعودية اعتماد استراتيجيتين منفصلتين متكاملتين: واحدة تركّز على تحدّي الصورة التي تبثها آلة المحور المعادي لها في الساحة العالمية. والأخرى تركز حصراً على صوغ صورة الوجه الجديد الذي تحمله الرؤية السعودية 2030، والإنجازات التي تم إحرازها في آليات تنفيذية واضحة تنوي الرياض المزيد منها.

فالانفتاح السياسي والخصخصة الاقتصادية والتنوع الاجتماعي الذي تضمنته الرؤية السعودية هي فلسفة جديدة وجريئة وحديثة تتحدى التقوقع والانغلاق وغايات الهيمنة الإقليمية التي يتبناها النظام الإيراني. السعودية الليبرالية ليست جاهزة في الأذهان، لذلك سيكون تغيير الانطباع مهمة عسيرة. إنما ليست مستحيلة إذا ما اعتُمِدَت استراتيجيات واعية وتجددية. وهذا ما يبدو جزءاً مما حمله الوفد السعودي الرفيع المستوى إلى واشنطن وكاليفورنيا ونيويورك.

في واشنطن، برز الارتياح والتأقلم مع ولي ولي العهد بصفته المساهم الأبرز في مستقبل السعودية وذلك بوصفه مهندس الرؤية 2030. في كاليفورنيا، استعدت عاصمة التكنولوجيا لعرض ما في خططها المستقبلية على الرجل الذي قرر أن يلتحق بالثورة التكنولوجية شريكاً ومساهماً فعلياً. وفي نيويورك، تأهب رجال الأعمال والمؤسسات المالية والمصرفية لحدث سيحدث بالتأكيد هزة تاريخية عندما تُطرح 5 في المئة من أسهم «أرامكو» للاكتتاب في البورصة المحلية والعالمية للمرة الأولى في تاريخ السعودية وأكبر اكتتاب في تاريخ الكرة الأرضية. فالسعودية قررت التحوّل بعيداً من الإدمان النفطي نحو التنمية وتعزيز القدرة الاستثمارية.

لن يطرأ تغيير آني على صورة السعودية في الأذهان الأميركية، فالأمر يستغرق وقتاً ويتطلب استراتيجية وصبراً. لكن صورة الأمير محمد بن سلمان أتت بطمأنينة تحدّت النزعة العنصرية التي أرادت تصنيف كل الشباب المسلم في خانة الراديكالي المتطرف، كما تزامنت الزيارة مع الهجوم الإرهابي المسلح في أورلاندو الذي نفذه الأميركي من أصل أفغاني، عمر صديق متين، وتبناه تنظيم «داعش». ما حدث هو أن صورة الإصلاحي الذي تأبّط الطموحات الرؤيوية حطّمت ادعاء المتطرفين الأميركيين بأن الشباب المسلم كله تدميري يهوى العمليات الإرهابية.

هناك راديكالية إسلامية وهناك أيضاً راديكالية عنصرية، وكلاهما خطير مع اختلاف المقاييس لأن الإرهاب الذي يرافق الراديكالية الإسلامية مرعب يستهدف المسلمين وغير المسلمين.

عمر صديق متين ساهم في تدمير ما حاول الاعتدال الإسلامي بناءه وقدّم خدمة للتطرف الإسلامي وللتطرف ضد المسلمين. وهذا ما ستستغله أوساط متطرفة في الساحة الأميركية لتدعم الأفكار الخيالية التي يتبناها المرشح المفترض للحزب الجمهوري، دونالد ترامب، وهي التي تسكب الزيت على المشاعر الملتهبة في المعسكرين.

هيلاري كلينتون بدأت شن حملة تجريد دونالد ترامب من مواصفات القيادة والكفاءة بهدف إبراز خطورته على المصلحة القومية الأميركية. قد تنجح، إذا استمر دونالد ترامب في غطرسته وادعاءاته البهلوانية. إنما المشاعر الملتهبة قد تأتي بمفاجأة لا منطقية في أجواء التصعيد والتحريض المشحونة.

جميع القيادات في العالم تراقب الانتخابات الرئاسية الأميركية وبعضها يستعد لما ستأتي به في إطار السياسة الخارجية الأميركية.

الزيارة السعودية أتت في الوقت المناسب، وأوضحت لمن يرغب بالإصغاء أن ثورة هادئة وبراغماتية تحدث حالياً في السعودية لها أبعاد إقليمية في غاية الأهمية.