&

&
&
تراجيديا اسطنبول وكوميديا غزة
&
&
غسان زقطان
كان يمكن أن تسمع صوت الذعر في أوساط قيادات حماس تلك الليلة، طوال ساعات الانقلاب الأربع او الخمس لم يصدر أي شيء يشي بأن هناك أحياء في تلك المقرات
&
تبدو محاولة انقلاب الجيش في تركيا أقرب الى النوستالجيا من كونها حركة انقلابية قابلة للتحقق، إذ ليس من السهل تنفيذ انقلاب عسكري في الجمهورية التركية التي يحكمها حزب الحرية والعدالة الذي يقوده رجب طيب أردوغان، فالحزب الإسلامي الذي وصل إلى الحكم منذ 2002، يمتلك قاعدة شعبية عريضة حافظ عليها وعززها أوصلته الى الغالبية المطلقة في البرلمان منذ شهور فقط، حتى تلك الخلافات التي ظهرت في صفوفه وانتهت خلال مؤتمره الأخير بإبعاد الرجل القوي "داوود أغلو" وقبله إضعاف "غول" لم تكن كافية للحديث عن ضعف أو ارتباك يمكن استثمارهما في توجيه ضربة مفاجئة تنتهي بالخلاص من "أردوغان" وحزبه.
&
لا أظن أن "سلطان" تركيا، وهو يستحق هذا اللقب الآن أكثر من أي وقت مضى، قد ألّف انقلاباً لينقض عليه، كما يشيع خصومه في الإقليم مثل نظام الأسد ومناصريه الذي احتفل بسقوط الجار المزعج مبكراً وبحماقة تعكس هشاشة قراءته للمشهد التركي الداخلي، قبل أن يحول الأمر كاملاً إلى مؤامرة، ولكنه، "اردوغان"، استطاع، دون شك، وبحدس براغماتي محترف أن يوظف الانقلاب، سواء كان على علم بأمره أم لا، وأن يستثمر كل ذلك، ارتباك "تركيا" وصدمة موزعي الأوراق والأدوار في الإقليم، والتباس الأمر على أوروبا وهلعها من الهجرة التي تمسك تركيا بمفاتيحها، وتردد الولايات المتحدة الذي أصبح أحد سمات سياستها في المنطقة.
&
الانقلاب العسكري في تركيا كان احتمالاً بعيداً، ولكن نزول قواعد الحزب الإسلامي وأنصاره والأجهزة المسلحة الموالية لها إلى الشارع كان محتوماً فيما لو حدث ذلك. وسيكون من الصعب التكهن باحتمالات أين ستذهب تركيا والمنطقة لو نجح انقلاب العسكر، وهي احتمالات تشمل الحرب الأهلية وإضافة مأساة جديدة في أوروبا هذه المرة وليست على الضفة الجنوبية للمتوسط، حيث تكتفي المأساة هناك بدفع قوارب اللاجئين نحو البحر.
&
ورغم ذلك فثمة دخان كثير ما زال يغطي تلك الليلة الطويلة في تركيا. وثمة الكثير من الحقائق والتفاصيل الصغيرة ما زالت تظهر بينما يقود "أردوغان" ورئيس وزرائه وأنصاره انقلاباً مضاداً شمل تحطيم المؤسسة العسكرية التي بناها حلف الناتو حجراً حجراً خلال عقود من الحرب الباردة، في الوقت الذي يحتاج فيه الناتو لهذا الجيش بعد وصول وزير دفاع "بوتين" الى قاعدة "حميميم " في شمال سوريا واستدعائه الأسد الذي " فوجئ بالزائر الكبير".
&
حملة "التطهير" المتدحرجة وصلت الى مؤسسة القضاء والتعليم ودوائر الدولة، في عملية منظمة لإعادة صياغة الجمهورية وترتيب مجلس "الديكتاتور".
&
انقلاب "أردوغان" لا يبدو بريئاً على الاطلاق ويتحرك بسرعة نحو أهدافه محاطاً بذراعين قويتين شكلا كماشة محكمة؛ بقاء الناس والأنصار والسلاح والأعلام في الشوارع من جهة، وأحكام الطوارئ المعلنة من قمة هرم الدولة من جهة أخرى، مع حزمة من الوعود،غامضة وقابلة للتأويل، يطلقها نحو الأتراك وجيرانه مثل بالونات حرارية لتشتيت المواقف وتغذية القلق بالانتظار.
&
وبينما الاتحاد الأوروبي يواصل نقاش "حكم الاعدام" وتداعياته على حلم تركيا بالانضمام الى دول الاتحاد، و" أوباما" غارق في الجدل حول تسليم "غولن" والقرائن والأدلة المطلوبة، يواصل "أردوغان" تفكيك تركيا وإعادة تركيبها من جديد.
&
بين " انقلاب عسكري " يقوده ضباط غامضون وبين "حزب إسلامي" وصل الى السلطة عبر انتخابات ديموقراطية، سيختار الحكماء الحزب، انتهى عهد العسكر وانحسرت الثقة بوطنيتهم عندما يتسلمون السلطة.
&
مهمة الجيش ببساطة هي الدفاع عن البلاد والناس وليس حكمهم تحت أية ذريعة.
&
هذه هي الحقيقة التي أثبتها الأتراك؛ الناس والمعارضة وخصوم "أردوغان"، وهي الحقيقة التي يبدو أن قوى " الإسلام السياسي" لم تأخذها كاملة واكتفت، كعادتها، في انتقاء ما يناسبها منها، أقصد السلطة ومقاليد الحكم، وهو ما يفعله "حزب العدالة والتنمية" الآن باندفاع من يتبع ضربة الحظ.
&
أمام التراجيديا التركية كان يمكن الحصول على كوميديا حقيقية لدينا، في قطاع غزة، على سبيل المثال، الذي تحكمه حماس إثر انقلاب عسكري ناجح.
&
كان يمكن أن تسمع صوت الذعر في أوساط قيادات حماس تلك الليلة، طوال ساعات الانقلاب الأربع او الخمس لم يصدر أي شيء يشي بأن هناك أحياء في تلك المقرات، أو حول المخازن حيث ما زالت بعض صناديق الحلويات التي أرسلها "أردوغان" الى القطاع المحاصر عبر ميناء أسدود مباشرة بعد إعلان الاتفاق مع حكومة "نتانياهو/ ليبرمان" مغلقة، ولكن ومع توارد أخبار فشل الانقلاب، بعد التأكد تماماً من رؤية هلال "أردوغان" في الفضائيات، بدأ ذلك الصمت يتبدد ويتكشف عن ظهور دمى سعيدة ومنفعلة، أطرفها على الإطلاق صورة بالغة السعادة للسيد "اسماعيل هنية " نائب رئيس حركة حماس والرجل الثاني فيها تراتبياً، وهو يجلس على مقعد وثير محاطاً بأطفال ضجرين يلوحون بأعلام الجمهورية التركية الحمراء، اتضح أنهم أحفاده، بينما ظهر في صورة أخرى وهو يحمل "كعكة" عليها صورة مشتركة تجمعه ب"أردوغان".
&
أما أحد النواب في المجلس التشريعي عن حماس، أيضاً، فقد ذهب أبعد من ذلك عندما أعلن، دون أن يرف له جفن، بعد إدانة "الدخلاء والانقلابيين": "استعداد الفلسطينيين لبذل الدماء من أجل اسطنبول على شواطئ تركيا". عضو المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي انتهت ولايته منذ زمن بعيد، والذي يحكم مع حزبه قطاع غزة بواسطة انقلاب دموي،والذي يقف على شاطئ غزة المحاصرة وعلى أنقاض بيوت الناس التي خلفها العدوان الأخير وجوعهم، يريد أن يرسل شعبه ليموت على شواطئ تركيا هذه المرة، كما لو أنها، غزة، بحاجة الى شواطئ تركيا لتموت.&