راغدة درغام

ستكون الهدنة السورية التي ولّدها الاتفاق الأميركي – الروسي حاضرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي يتوافد إليها القادة الأسبوع المقبل. وستأتي مدينة حلب إلى نيويورك لتمتحن الصدق والعزيمة. سيستغل الجميع مأساة المهجرين والمشردين السوريين ليزعم العطف والتعاطف، وسينفي كل من المعنيين أنه ساهم في مقتل نصف مليون إنسان وفي تدمير المدن العريقة والبنية التحتية وسيتأهب للاستفادة من إعادة تأهيلها بعد إتمام تموضعه فيها. 

سيتوافد رؤساء وفود الدول إلى منبر الجمعية العامة لإلقاء الخطابات السنوية، فيما سيتقوقع أعضاء مجلس الأمن الدولي آخذين أنفسهم بمنتهى الجدية وهم يبصمون بتباهٍ على الاتفاق الأميركي – الروسي، إذا رأى نور الاستدامة. فلا أحد يجرؤ على تحدي اتفاق فاوضت عليه واشنطن وموسكو انتهى بالتفاهم على وقف النار والتعاون عسكرياً لدحض «داعش» وأمثاله على نسق «جبهة فتح الشام» المعروفة سابقاً باسم «جبهة النصرة»، ولا أحد يجرؤ على التنبؤ باهتزاز الاتفاق. 

سيهمس كثيرون بالرهان على انهيار قريب للهدنة، لأن الاتفاق ينطوي على شوائب أساسية جذرية تجعل دوامه غير منطقي. سيردّ البعض بأن لا خيار آخر أمام المعارضة السورية سوى الانصياع لأن أنقرة رحبت، والدول الخليجية لم تعارض بصورة تعطيلية. 

تعمّد الاتفاق إعفاء الميليشيات التابعة لإيران من المطالبة والمحاسبة والمراقبة، فيما يطالب الثنائي الأميركي – الروسي الفصائل السورية المسلحة بتفكيك نفسها بنفسها كشرط مسبق لإنجاح الاتفاق. سيقول هذا البعض أن وقف النار وإنهاء النزاع المسلح باتا ملجأ مهماً وبدت المرحلة الانتقالية السياسية غامضة وتفاصيل المعالجة الإنسانية عائمة. 

باراك حسين أوباما سيعتلي منصة الجمعية العامة التي تكتظ بالرؤساء والوزراء ليخاطبهم لآخر مرة رئيساً للولايات المتحدة، وسيلقى اهتماماً بالتأكيد، لكنه لن يُقارَن بالترحيب والحماسة والفضول التي رافقت خطابه الأول قبل ثماني سنوات. سيُحكَم عليه من منظور سورية مهما تفادى ذلك عبر انعقاد قمة اللاجئين التي ستسبق الدورة الـ71، ومهما شدّ بالحاضرين إلى الاعتراف له بإنجاز اتفاقه النووي مع إيران. 

فإذا دامت الهدنة وصدقت وعود روسيا، لعل باراك أوباما ينجو من بعض اللوم والعتاب. أما إذا انهار الاتفاق، فسيقع الثقل على أكتاف وزير خارجيته جون كيري الذي يلاقي انتقادات حادة من مختلف الأوساط بما فيها المؤسسة العسكرية الأميركية، وبات يُشار إلى تفاهماته مع نظيره الروسي سيرغي لافروف بأنها نموذج ثنائي المكر والسذاجة. لعل الاستنزاف والإنهاك يدفعان الجميع إلى مرحلة «الاستواء» لأن الاستمرار في حروب مفتوحة على مستنقعات يشابه الانتحار مهما بدا اليوم أن هناك غالباً أو مغلوباً.

ما يتغير في أعقاب الاتفاق الذي توصل إليه الثنائي كيري – لافروف هو دخول الطائرات السورية في قصف التنظيمات المصنَّفة إرهابية والمنظمات التي ترفض الانحناء أمام التصنيفات الأميركية – الروسية. إيران وميليشياتها والنظام في دمشق ستستفيد من إتمام الولايات المتحدة مهمة تدمير ألد أعداء الأطراف الثلاثة، لذلك وافقت بسرعة وبلا تردد على الاتفاق الذي أكدت موسكو أنه لمصلحة هذه الأطراف بالذات في هذه المرحلة الحاسمة التي تفرضها معركة حلب المصيرية. أما المعارضة السورية فإنها مرة أخرى على المحك وبين أيدي اللاعبين الدوليين والإقليميين على السواء.

لا أحد يتمنى استمرار النزيف في سورية سوى «الدواعش» وأمثالهم. أما الشركاء الآخرون في المأساة السورية، فهم باتوا في حاجة إلى استراتيجية خروج من المأزق الذي تورطوا فيه وإلى استراتيجية تجنيب أنفسهم الانزلاق إلى مستنقع روسيا، وإيران في الطليعة. ما سيؤدي إلى تفتت الهدنة والاتفاق معها يكمن في العملية السياسية التي يُفترض أن تكون جزءاً أساسياً وتنتهي بحلول سياسية. 

فإذا اقتنص محور روسيا – إيران – النظام الفرصة وافترضها تأشيرة له لتحقيق الانتصار على قاعدة غالب ومغلوب، ستطول كثيراً الأزمة السورية وستتفرع أكثر وأكثر. فهذه هدنة انتقالية إلى عملية سياسية انتقالية – أو هكذا يُفترض أن تكون. في ذهن بعض الأطراف الاستفادة من هدنة إنسانية، ثم العودة إلى القتال بعزم أشد، لذلك من واجب الثنائي الأميركي – الروسي والأمم المتحدة معه أن يتأهب للتداعيات والإفرازات.

البعض يتحدث عن حتمية سقوط الهدنة بسبب تعدد وتضارب أجندات المقاتلين وأربابهم ميدانياً واستحالة تحقيق خروق ديبلوماسية طالما أن الميدان العسكري لا يسمح بها، وهو يقترح «التواضع» في التطلعات لأنه أكثر «واقعية». ريتشارد هاس، رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك كتب في صحيفة «فاينانشال تايمز» أن البديل هو «تغيير الظروف على الأرض» عبر تحويل بعض المناطق إلى مناطق «آمنة»، الأمر الذي يتطلب إقامة «منطقة إنسانية» تحظى بـ «غطاء جوي وقوات مشاة تابعة للمجموعات المعارضة، ومن دول مجاورة صديقة».

هذا الكلام له رنة مشابهة لكلام تركيا عن إنشاء مناطق آمنة وطروحات إنشاء مناطق حظر الطيران. مهما كان التشابه أو التباعد بين الفكرتين، فإن «واقعية» انهيار الهدنة و «تواضع» التطلعات والإجراءات يعنيان أن إنهاء الحرب السورية «ليس وارداً في المستقبل المنظور»، وفق ما يقول ريتشارد هاس. فهو يكتب «فلا وقف النار على الصعيد الوطني ولا الانتقال إلى حكومة وحدة بعد الأسد مطروحان في الأوراق»، لذلك أفضل ما يمكن القيام به هو «إنشاء مناطق حماية لتخفيض المعاناة الإنسانية» في سورية، بكل واقعية وتواضع.

أحد اللاعبين الأساسيين بين جيران سورية هو تركيا التي دخلت الحرب السورية ميدانياً لهدفين، عنوان أحدهما «داعش» والآخر «الكرد». لم يكن أمام أنقرة سوى الترحيب بالاتفاق الأميركي – الروسي، إنما هذا لا يعني موافقتها المسبقة على التصنيف الآتي لِمَن مِن المعارضة إرهابي ومَن هو وطني. 

فالرئيس رجب طيب أردوغان عازم على إقحام الأكراد المقاتلين في سورية في خانة الإرهاب، متحدياً الموقف الأميركي الذي يرفض المنطق التركي ويعتبر الكرد شريكاً في الحرب على «داعش» في سورية وفي العراق – ومعركة الموصل المهمة آتية. وحلفاء تركيا من التنظيمات السورية المسلحة المعارضة غير راضين على التصنيفات والإعفاءات الأميركية – الروسية للمقاتلين في سورية من منظمات وميليشيات.

السؤال هو، هل سيكون في اليد حيلة للفصائل السورية إذا فرضت الواقعية والصفقات على داعميها القبول بالشروط الأميركية – الروسية، وحجبت عنها المعونات العسكرية الضرورية جداً لها في هذا المنعطف؟ الجواب لدى القيادات في الدول الخليجية المعنية، كما لدى القيادة التركية في ضوء ما تم التوافق عليه وإعلانه أثناء المؤتمر الصحافي الأسبوع الماضي لوزيري الخارجية السعودي والتركي، بدءاً من التمسك برحيل الأسد وتبديد الشكوك بما قيل عن استعداد تركي لبقائه في المرحلة الانتقالية لفترة موقتة مفتوحة الزمن، وانتهاء بمفاعيل دعم الفصائل السورية وتمكينها فعلياً بالسلاح والذخيرة الحاسمة في معركة حلب بالذات. 

فالمعادلة الميدانية تبقى في صلب مستقبل الهدنة، والثقة ما زالت زئبقية بين كل اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين على السواء وهي تزداد شرخاً بين المعارضة السورية والإدارة الأميركية.

فعلياً، ما حدث عبر إعلان الاتفاق الأميركي – الروسي على الهدنة من جنيف هو تعطيل كل اندفاع للمحاسبة على استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة في نيويورك. مرة أخرى، يتصافح الثنائي كيري – لافروف على اتفاقات تعفي النظام في دمشق من المحاسبة في الملف الكيماوي. فلقد شكّل الاتفاق الأخير غطاءً حمى الحكومة السورية من المحاسبة، رغم تأكيد لجنة التحقيق الدولية ضلوع النظام في استخدام الأسلحة. كما جمّد أي مهل لتحريك الملف في مجلس الأمن لمحاسبة النظام على استخدام هذه الأسلحة في خرقٍ للقرارات وانتهاك للتفاهمات بما فيها الأميركية – الروسية.

الأرجح أن تبقى الهدنة سارية المفعول بقرار مقصود من دمشق وطهران وموسكو كي يمضي التجمّع الدولي في نيويورك على وقع إيجابي يحوّل الأنظار عن الغارات الروسية والبراميل المتفجرة السورية والميليشيات الإيرانية، ويُبعِد محاسبة النظام السوري على استخدامه السلاح الكيماوي الذي سلّط الأضواء مجدداً عليه. فالمعركة أيضاً معركة صور ورأي عام، ولا يفيد هذا المحور بأن يتحوّل الرأي العام ضده بسبب مشاهد رعشات الأطفال المحروقين بالأسلحة المحظورة. 

كان لا بد من قليل من التنازلات لشراء الوقت للأسباب هذه، كما لأسباب ميدانية تتطلب العودة إلى طاولة رسم الاستراتيجية العسكرية لحلب بعدما تكبدت الميليشيات التابعة لإيران خسائر كبرى. وكان جون كيري جاهزاً جداً، كعادته، لمصافحة التفاهمات مع سيرغي لافروف الذي قدم لكيري جزرة أرادها واحتفظ بأكثر من عصا في يديهما معاً. فلافروف يفهم كيري جيداً ويعرف نقاط ضعفه وأين تقع عاطفته إن كانت نحو إيران دوماً لأسبابه السياسية والشخصية، أو إن كانت ضد المعارضة السورية وأربابها بمبرراته التقليدية.

المعارضة السورية المعتدلة باتت تشكك جذرياً في نهايات إدارة أوباما وصفقات جون كيري وأصبحت غير جاهزة للانصياع لهما أوتوماتيكياً، لأن في ذلك توقيعاً على ورقة وفاتها، في رأي معظمها. الاتفاق الأخير بين كيري ولافروف ينطوي على تكليف فصائل المعارضة تدمير بعضها بعضاً، بدءاً بأكبر الفصائل المحاربة وأقدرها، ويتوعد بعمليات أميركية – روسية مشتركة لإتمام المهمة في حال أي تقاعس من طرف المعارضة. ميليشيات إيران وقوات النظام في دمشق بالطبع مرتاحة، لكنها استراحة عابرة.

الهدنة الدائمة هي الضرورية كما الاقتناع بأن الوقت حان لإتمام الصفقة الكبرى – صفقة إنهاء الصراع في سورية، كجزء من التفاهمات الكبرى الأميركية – الروسية والإقليمية. وهذا يبدو اليوم بعيد المنال.