سمير عطا الله

 انحسر دور الخطب السياسية، بعدما ظل لعصور طويلة، أداة القيادة والتعبئة. بعض الخطب تحوّلت إلى معلقات على جدار التاريخ، لا يزيلها زمن، وبعضها تحوّل إلى نصوص أدبية. مثال الأول خطب ونستون تشرشل في الحرب، والثاني خطاب التنصيب الذي ألقاه جون كيندي.

والثورات الكبرى كان لها خطباؤها: ميرابو في الفرنسية، ولينين في الروسية. ثلاثة من زعماء العالم الثالث اختاروا أسلوب التخاطب المباشر مع الناس: عبد الناصر في عرض السياسة والمتغيرات، والحبيب بورقيبة في مشاركة الناس أبسط القضايا وأهمها، وفيدل كاسترو، الذي يروي صديقه غابرييل غارسيا ماركيز، أنه دخل التلفزيون مرة في صورة مفاجئة في الرابعة بعد الظهر، وبدأ خطاباً استمر حتى منتصف الليل دون توقف، بحيث لم يتسنَّ لأحد من حرسه ومساعديه الذهاب إلى الحمام.

هل ظل الكوبيون يصغون طوال الوقت؟ ثمة كتاب صغير الحجم يضم بعض خطب كاسترو التاريخية. معدل إلقائها 6 ساعات. لكن حتى لو كان رجل يتحدث إلى التاريخ، لا أدري ماذا يمكن أن يقول طوال ست ساعات، ولا أعرف كم من البشر يتمتعون بقدرة الإصغاء والانتباه طوال ست ساعات.
هذا لا يمنع أن كاسترو أطل على العالم الخارجي عام 1960 بهذه الميزة عندما تحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة طوال 259 دقيقة، في مرحلة كانت تعم خلالها العالم الثالث موجة من التحرر الوطني والزوال الاستعماري. لكن ما لبث الزعيم السوفياتي أن خطف كل أضواء تلك الدورة، عندما رصَّع خطابه الغاضب بأن خلع حذاءه وراح يضرب به على الطاولة أمامه. البعض قال إن الرجل كان مخموراً من كثرة الأنخاب التي شربها خلال غداء أقامته البعثة السوفياتية تكريما له. والبعض قال، بكل جديّة، إن حذاءه كان ضيقاً، ورأى أن الطريقة الوحيدة لطرد الألم وصنع العناوين حول العالم هي ذلك المشهد في هيئة الأمم، الذي لم يحدث مثله لا من قبل ولا من بعد.. ربما.
هل أصحاب الخطب الطويلة يحبون الأحاديث الطويلة أيضا؟ فلنعدْ إلى غارسيا ماركيز. لقد أهداه كاسترو أجمل فيلا في المدينة عربوناً لصداقتهما، وتقديراً لموقف حامل نوبل من قضايا أميركا اللاتينية. وكان يطيب للزعيم الكوبي أن يفاجئ صديقه بزيارة غير معلنة كالمعتاد. ويروي أحد رواد تلك السهرات من أصدقاء ماركيز، أن كاسترو كان يصل في الثانية، ويغادر في السادسة صباحاً. وعندما كان ماركيز يسمع جلبة الوصول، يحذّر ضيوفه قائلاً: طار عليكم النوم.