محمد السعيد إدريس

الذين تابعوا المداخلة الحوارية التي حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إجرائها مع ضيوف روسيا من كبار الأكاديميين الغربيين بصفة خاصة «بمنتدى فالداي للحوار» في دورته ال 14 (21/10/2017) كان بمقدورهم أن يستنبطوا ثلاثة معانٍ، أو توجهات مهمة تحكم توجهات الرئيس الروسي، وهو يستعد، على الأقل داخلياً من دون إعلان صريح، لخوض انتخابات رئاسية لولاية رابعة في مارس/آذار القادم.

التوجه الأول، هو أن الرئيس بوتين الذي آثر عدم الاحتفال بالعيد المئوي لتفجر ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول الشيوعية التي أسقطت الإمبراطورية القيصرية الروسية وأسست الاتحاد السوفييتي، مازال محكوماً عاطفياً بالحنين إلى العصر السوفييتي الذي كانت بلاده تقف فيه كتفاً بكتف مع الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم الغربي الرأسمالي على قيادة النظام العالمي، ولكنه يدرك بعقله استحالة العودة إلى الوراء، وأن مستقبل روسيا مرهون بقدرتها هي على صنع هذا المستقبل، وأن معادلات القوة في العالم لن تسمح مرة أخرى بعودة جديدة للاتحاد السوفييتي، ليس بالاسم، ولكن بالمعنى. وهذا يعني أنه مازال أسيراً لمقولته عميقة المغزى أن «من لا يشعر بالحنين إلى الاتحاد السوفييتي لا فؤاد له.. ومن يريد العودة إليه لا عقل له».

أبقى بوتين على حنينه الداخلي للاتحاد السوفييتي، وهذا ليس غريباً، فهو ابن هذه التجربة بحلوها ومرها، لكنه حسم قراره بعدم الاحتفال بمئوية تأسيس الاتحاد السوفييتي لإدراكه أن روسيا مازالت منقسمة على نفسها بفعل أحداث وتداعيات سقوط الاتحاد السوفييتي بين من انحازوا للتجربة السوفييتية وما زالوا رهناً لماضيها، ومن ثاروا عليها واعتبروها إجهاضاً لتطور روسيا الكبرى داخل الإطار الأوروبي، ولإدراكه أن الاحتفالات لن تؤدي إلا إلى تعميق الانقسام بين الروس في وقت يحرص فيه هو على توحيدهم في رؤية جديدة من أجل المستقبل.

هذا المعنى متكامل الجوانب الذي يجمع بين حنين بوتين إلى الماضي السوفييتي واحترامه، وبين الوعي بتحديات المستقبل وضروراته وإدراكه لصعوبة هذا المسار وتحدياته، وخاصة من جانب الغرب وبالذات الولايات المتحدة التي أحبطت من وثقوا بها من الروس لدعم مسعاهم للخروج من أنقاض سقوط الاتحاد السوفييتي على قواعد وأسس من الشراكة والاحترام، والتعاون المتبادل والعدالة، وليس ترسيخ الظلم والاستعلاء والتفرد، عبر عنه بصراحة شديدة، ومرارة زائدة، الرئيس بوتين في إجابته عن سؤال طرحه أحد المشاركين الغربيين طلب من بوتين تحديد الأخطاء التي وقعت فيها روسيا في علاقتها مع الغرب، وكان رد بوتين: «أكبر خطأ أننا وثقنا بكم أكثر مما ينبغي.. لقد فسرتم هذا على أنه ضعف، وانتهزتم ذلك». وقال «للأسف.. بعدما قسم شركاؤنا الغربيون الإرث الجيوسياسي للاتحاد السوفييتي، كانوا (الغرب) واثقين من عدالتهم غير القابلة للجدال بعد ما أعلنوا أنفسهم المنتصرين في الحرب الباردة».

التوجه الثاني، هو إدراكه أن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة تمر بأسوأ مراحلها، وأنها «في حال يرثى لها». وقدم دلائل كثيرة على ذلك، أولها، أن روسيا تتعرض لأسوأ حملة مناهضة ضدها داخل الولايات المتحدة، تمثلت في إغلاق منشآت دبلوماسية، وأخرى إعلامية. هو هنا يتحدث عن قرار واشنطن إغلاق البعثات الدبلوماسية الروسية الثلاث على الأراضي الأمريكية في سان فرانسيسكو، وواشنطن، ونيويورك، اعتباراً من 2/9/2017، وقيام مكتب التحقيقات الفيدرالي (F.B.I) في اليوم نفسه بتفتيش مبنى القنصلية العامة الروسية في سان فرانسيسكو. وثانيها، تعرض روسيا لحزمة من العقوبات الأمريكية في 2/8/2017 استهدفت إخراج روسيا من أسواق الطاقة الأوروبية، ودفع روسيا إلى التحول إلى شراء المزيد من الغاز الطبيعي الأمريكي الأكثر تكلفة من نظيره الروسي.

أما التوجه الثالث، فهو أن روسيا قادرة على النهوض من كل إحباطاتها وما زالت على إصرارها لفرض نظام عالمي أكثر عدالة متعدد الأقطاب. فقد أعقب حديثه عن صدمته في العلاقة مع الغرب الذي فسر الثقة الروسية فيه بأنها ضعف، وقال «لقد فسرتم هذا على أنه ضعف وانتهزتم ذلك»، لكنه اتبع ذلك بالقول: «إذا أدركنا هذا الواقع فعلينا إدخال تعديلات، وقلب هذه الصفحة، والسير قدماً، فنبني علاقاتنا على أسس الاحترام المتبادل، وأن نتعامل بصفتنا شركاء متساوين».

هذه التوجهات المهمة عند الرئيس الروسي تطرح علامات استفهام حول فرص إجراء تحسينات حقيقية على العلاقات بين واشنطن وموسكو في ظل ثبات الإدراك الأمريكي الاستراتيجي على مفهوم أن روسيا ليست شريكة، ولكنها مصدر رئيسي للتهديد، ووجود مزيد من الفرص للصدام، سواء على مستوى القارة الأوروبية، أو على مستوى الشرق الأوسط. والسؤال المهم في ظل كل هذه الظروف هو: هل في مقدور اللقاء، الذي مازال محتملاً، بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في فيتنام على هامش اجتماعات قمة منظمة التعاون الاقتصادي لبلدان آسيا والمحيط الهادي في فيتنام، احتواء هذا الإرث من الخلافات، أم أن هذه الخلافات «مؤسسية» وعميقة لها علاقة بدولة حريصة على أن تتسيّد المكانة العالمية العليا منفردة، وأخرى تريد أن تكون شريكة وتسعى لوضع نهاية لعصر التفرد العالمي والتوسع في دعوة التعددية القطبية، كما هو الواقع بين واشنطن وموسكو؟
هذا هو التحدي الحقيقي، الذي عبرت عنه المعاني الثلاثة الواردة في حديث بوتين أمام «منتدى فالداي للحوار».