أمير طاهري

بعد عقود على رأس السياسة الروسية، لا يمكن لفلاديمير بوتين أن يكون شخصية غير معروفة القدرات والإمكانات على الأقل فيما يتعلق باهتمامات المختصين في السياسة الغربية. ومن أهم التساؤلات التي ينبغي عليهم طرحها يدور حول: إلى أي مدى ووفق أي قوة يمكن دفع السيد بوتين للالتزام بحدود السلوك المقبول لديهم.

فتحت زيارة بوتين القصيرة إلى فرنسا خلال هذا الأسبوع، وبالتحديد إلى قصر فرساي، المجال لطرح هذا التساؤل بطريقة أكثر هدوءًا وتعقلاً.

وحقيقة أن السيد بوتين تقبل الدعوة لزيارة موجزة من الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون عكست رغبة الزعيم الروسي المتقدة لمحاولة «إعادة» الدخول إلى ما يعرف بدائرة القوى العظمى العالمية. وبعد استبعاد روسيا من مجموعة دول الثماني، كان السيد بوتين شديد الحرص على التقاط صورة «ما» تعكس ولو «ُثلمة» صغيرة في جدار العزلة الدولية المفروض عليه.

وبعد ذلك، كان من بين المواضيع التي طرحها السيد بوتين في قصر فرساي هو أمله في أن يعتبر المختصون الغربيون روسيا العصر الحاضر كما هي عليه، وليست كمثل ما كان الاتحاد السوفياتي البائد من قبل. وكانت ذريعة زيارة قصر فرساي هي الذكرى الثلاثمائة لزيارة بطرس الأكبر القيصر الروسي الخامس ومؤسس روسيا الحديثة إلى فرنسا. وكان القيصر بطرس هو مؤسس ما يسمى المدرسة «التغريبية» الفكرية - اعتناق الثقافة الغربية، وهي من مدارس الفكر القومي الروسي والتي يدور طرح مثقفيها حول اعتبار أن روسيا جزء من القارة الأوروبية، وأنه ينبغي عليها تحرير ذاتها من وحشية التراث الآسيوي العقيمة.

رغب القيصر بطرس الأكبر في أن تتبنى بلاده العلوم الحديثة، ونظم التعليم المتقدمة، والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك بدعوة «البويار - أفراد النخبة الأرستقراطية الإقطاعية من نبلاء روسيا» إلى حلق لحاهم الكثيفة، ودعوة «الموزيك – الفلاحين والمزارعين الروس» إلى ارتداء الملابس الأوروبية التقليدية. وخلال مدة زيارته إلى فرنسا التي استغرقت 12 أسبوعًا، استأجر القيصر الروسي مجموعة من الفرنسيين، وغيرهم من الأوروبيين، من المعلمين، والمؤرخين، والفنانين، والمهندسين، والمعماريين، والإداريين لمرافقته إلى روسيا ومساعدته في تحويلها إلى أمة حديثة على غرار أوروبا وبلدانها. وكان مطلوبًا من هؤلاء الموظفين أن يحولوا مدينة بتروغراد، والتي هي سان بطرسبرغ اليوم، إلى مدنية على الطراز الإيطالي، وإعادة تصميم العاصمة موسكو لتكون كمثل المدن الفرنسية الحديثة في ذلك الوقت.

عارض السلافيون جهود التغريب المحمومة التي كانت يقودها القيصر بطرس الأكبر في البلاد، وكان السلافيون يعتقدون أن لروسيا شخصيتها المميزة وروحها الأصيلة ومن ثم ينبغي عليها الوفاء بمصيرها الواضح من خلال توسيع الإمبراطورية الروسية ونشر نسختها الخاصة من الديانة المسيحية.

حاول السيد بوتين، خلال حياته المهنية في المضمار السياسي، أن يلعب على كلا الوترين، فلقد كان متطلعًا للغرب في بعض الأحيان، وسلافيًا محضًا في أحيان أخرى. ولكن في قصر فرساي، كانت الإشادة المضطرمة بالقيصر بطرس الأكبر قولاً والتماهي مع الدور الغربي لسيد الكرملين فعلاً.

وكانت الرسالة الاستثنائية التي أراد بوتين أن يبعث بها تدور حول الفتوحات الروسية الأخيرة في كل من جورجيا وأوكرانيا، وأنه لا ينبغي على الغرب النظر إليها من زاوية محاولة أوسع لإعادة إحياء الإمبراطورية السوفياتية التي عفى عليها الزمن. وخلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي جمعه بالرئيس الفرنسي في قصر فرساي، تخلى السيد بوتين عن روتينه القومي المعتاد ووصف الغرض الأْولى من مهام السياسة بمحاولة تحسين حياة الشعوب.

وكان غرضه هو طمأنة الفئات الوسطى من المجتمع الروسي والتي تأثرت للغاية جراء العقوبات الاقتصادية الدولية، وانخفاض أسعار النفط العالمية، والتدهور العام في الاقتصاد الروسي منذ عام 2012. 

ثم حاول الرئيس الروسي تغيير مسار الحوار من خلال طرح قضايا مثل الأزمة السورية والأوكرانية باعتبارها من بعض البنود المدرجة على جدول الأعمال العالمي المثقل بكثير من المشاكل والأزمات. ولقد دندن حينًا ورقص حينًا حول تيمة مكافحة الإرهاب، وهي من التيمات التي يعلم جيدًا أنها تجذب على الدوام المزيد من الانتباه في الغرب، ومن ثم تحدث عنها عارضًا المساعدة والتعاون الروسي الأكيد. ومن الواضح بجلاء حرص السيد بوتين على إظهار «إعادة» ربط روسيا بدوائر الدول العالمية الكبرى حتى ولو بالحد الأدنى من الوسائل على أقل تقدير، ثم تقبل بوتين على الفور اقتراح السيد ماكرون بإقامة مجموعة عمل مشتركة لوضع استراتيجيات مكافحة الإرهاب.

وإجمالاً للقول، كان بوتين الذي رأيناه في قصر فرساي هذا الأسبوع يبدو أقل تحديًا، وأكثر قابلية لخوض غمار اللعبة الدولية وفقًا لبعضقواعدها المتعارف عليها. ومن المؤكد، أن هذا لا يمكن أن يكون سوى موقف مؤقت متخذ في لحظة صعبة.

لقد وضع بوتين بلاده على مسار شديد الاضطراب. ولكن الهدف ينبغي أن يكون العودة بروسيا من هذا المسار المضطرب.
وإن كان السيد بوتين مستعدًا لفتح نافذة جديدة من الفرص السانحة فلن يكون من الحكمة بحال أن نغلق هذه النافذة في وجهه. غير أن هذا لا يعني دعوة الرجل إلى مائدة متنوعة من التنازلات تمامًا كما صنع الرئيس باراك أوباما عبر سياسة «إعادة تعيين العلاقات» الطفولية.

كان السيد بوتين محقًا في إشارته إلى أن روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفياتي السابق. حيث كان الاتحاد السوفياتي عدوًا مباشرًا للديمقراطيات الغربية، في حين أن روسيا اليوم في أسوأ حالاتها مع الغرب ليست إلا خصمًا من الخصوم.

ووفقا إلى المصادر الفرنسية المطلعة، صدر عن السيد بوتين في قصر فرساي مجموعة من التلميحات المثيرة للحيرة. فعند حديثه عن سوريا عطف على ذكر الرئيس بشار الأسد، الدمية التي تتلاعب بها طهران وموسكو سعيًا وراء تحقيق غايات خاصة. بدلا من ذلك، أصر السيد بوتين على أن أي تسوية بشأن الأزمة السورية لا ينبغي أن تكون على حساب الإطاحة بمؤسسات الدولة. وهذا من الأمور التي سوف تجد القوى الغربية، وجموع الشعب السوري، صعوبة ليست بالبالغة في قبوله.

ومع استبعاد بضع مئات من الأشخاص المتورطين بشكل مباشر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فلا يوجد سبب يمنع البقية المتبقية من موظفي الدولة السورية في أن يكون لهم مكان في مستقبل سوريا الحرة.

ويأتي الموقف الجديد للسيد بوتين على خلفية الانخفاض الحاد في النشاط العسكري الروسي في سوريا. ولقد أعلن بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم في الشهر الماضي عن عملية عسكرية على غرار عملية حلب، ولكنها موجهة هذه المرة نحو محافظة إدلب مع القوات الجوية الروسية التي سوف تشن عمليات القصف الضخمة والمروعة. غير أن هذا لم يحدث. كما ابتلعت روسيا، مرغمة، هجومين شنتهما القوات الأميركية على مواقع ووحدات تابعة لقوات بشار الأسد من دون أن تحاول الرد بأي صورة من الصور. 

وصار السيد بوتين الآن يستخدم مصطلح «عدم التصعيد» حيال كل من الأزمات في سوريا وأوكرانيا. وربما يحاول السيد بوتين شراء بعض الوقت لغرض ما أو هو يحاول تقسيم خصومه.

ولكنه قد يعكس حقيقة مفادها أنه صار يتعلم من تجاربه وأن السياسات الإمبريالية القديمة قد عادت بالهزيمة على نفسها في نهاية المطاف. ولا ينبغي رفض موقفه المتخذ أخيرًا، ولا يجب تعريضه للاختبار كذلك، فإن تحقق أنه يريد العودة إلى المجتمع الدولي مرة أخرى، فلا غرو من مساعدته على القيام بذلك.