فـــؤاد مطـــر
أما وقد تغلَّب الدستور العراقي وحُكْم القضاء في أعلى مستوياته (المحكمة الاتحادية العليا) على ما عداه من خيارات، وبموجبه قُضي الأمر بعدم دستورية الاستفتاء الذي فاز من حيث الاختيار الشعبي، مقابل خذلان فرضتْه المسايرات، فضلاً عن عدم نضوج خطة أو مخطط الدول الكبرى ذات القدرة على فرز الكيانات إلى دويلات... أما وقد حدثت الغلبة الموضوعية، ومن دون سفْك نقطة دم واحدة، ورأى عقلاء القوم الأخذ بشرعية الدستور والقضاء، تعود الحال إلى ما كانت عليه قبل اليوم الكردي الاستثنائي (الاثنين 25 سبتمبر «أيلول» 2017). فإن وضْع كل الأمور - وبالذات ما هو عالق أو مستعصٍ البحث فيه - بات من مصلحة الجميع.
وأما الإشارات والتحفظات الصادرة تعليقاً على ما قضت به «المحكمة الاتحادية العليا» فإنهـــــا حتى إشـــــعار آخر تبـــــقى من مســـــتلزمات الضغط لنيْل المطالب بالتمني، درءاً للحصـــــول عليها بالأسلوب الغلابي.
وإلى ذلك، فإن قرار المحكمة الاتحادية وإعادة النظر فيما تطلبت حدة الأزمة بعد يوم الاستفتاء اتخاذه من إجراءات وعقوبات، كفيل برفع منسوب التفهم، ويرطب مشاعر الأخوة التي أصابها بعض الجفاف من شدة التحدي، وكادت تتيبس. وهذا أمر يتساوى عاتق كل الأطراف في مسؤولية حمْله.
جاء قرار«المحكمة الاتحادية العليا» في بغداد يوم الاثنين 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، يحفِّز كاتباً مثلي متابعاً للشأن العراقي بجناحيْه العربي والكردي، منذ خيار الحُكْم الذاتي،
لتحويل خاطرة لم تفارق بالي قبل الاستفتاء وبعده، إلى فكرة طالما أتمنى لو يؤخذ بها لوطننا لبنان، المكتوي بخيارات وحالات فيها كثير من الظلم له، والذي لا أمان ولا استقرار ولا ازدهار ولا طمأنينة إلا بإعلانه بلداً محايداً، حاله من حال كيانات أوروبية حقق اعتماد الحياد هوية لها طمأنينة، تشمل الهويات والتناقضات والمذاهب.
خلاصة الفكرة هي أنه لو أخذ مسعود بارزاني بصيغة موناكو، مع بعض التعديل والتشذيب وإضفاء الخصوصية الكردية، والعلاقة المتجذرة بين عرب العراق وأكراده وسائر أطياف القوميات والديانات، بدل اعتماد النقطة الأعلى من الطموح، استنساخاً لما آلت إليه تطلعات جنوبيي السودان، لكان ربما وفر على نفسه وعلى أبناء الشعب في إقليم كردستان، كثيراً من الخسران الذين هم في غنى عنه.
هنا نستحضر من الجغرافيا والتاريخ ما يضيف مزيداً من الصوابية لما نقوله. موناكو إمارة محكومة من آل غاريمالدي منذ عام 1297، عدا فترات بسيطة نتيجة ظروف استثنائية. تقع على تلال مشرفة على البحر الأبيض المتوسط وإيطاليا، اللتيْن تشكِّلان حماية لها، علماً بأنها ليست مستهدَفة من قوى خارجية. تبلغ مساحتها أقل من مائة كيلومتر مربع، أما عدد سكانها فأقل من نصف مليون نسمة، الأمر الذي يجعلها الدولة الأكثر كثافة سكانية في العالم، إلا أن ذلك لا يشكِّل عقدة في نفس أهل هذه الإمارة ذات الحُكْم الملكي الدستوري، والمعترَف بسيادتها بموجب معاهدة أبرمتْها الإمارة مع فرنسا عام 1861، وبموجب هذه المعاهدة فإن فرنسا كما سائر دول العالم تحترم سيادة موناكو، فضلاً عن أن سياستها الخارجية مستقلة. وحيث إن هذه الإمارة لا تحتاج إلى جيش ولا أعداء لها، فإن الذي قد يصيبها إنما يصيب فرنسا التي على عاتقها - بموجب المعاهدة - مسؤولية الدفاع عن الإمارة.
شعب موناكو في غاية السعادة، لا يتدخل في شؤون الآخرين، ولا يترك مجالاً للآخرين لكي يتدخلوا في أحوال الإمارة. يعيش الناس في بحبوحة نسبية، ويبذلون ما في استطاعتهم لجذْب الناس إليهم، للسياحة أو للسكن أو لحضور مهرجانات، وأيضاً لمَن تطيب لهم المقامرة في أحد أهم كازينوهات القمار في أوروبا.
كان الأمير رينيه موضع رعاية معنوية من معظم حكام القارة. وبعدما تزوج النجمة الأميركية غريس كيلي باتت موناكو حديث وسائل الإعلام العالمي، واستطاعت هذه النجمة وضْع إمارة موناكو في المشهد السياحي الدولي بامتياز. وعندما قضت في حادث سيارة كثر الحزن عليها، تماماً كذلك الحزن على الأميرة ديانا التي كانت السيارة أيضاً مسرح رحيلها المفاجئ.
ليست كردستان بعيدة الشبه عن موناكو، قبل أن تضع نفسها على جدول الدول الناشئة في العالم. آل بارزاني مثل آل غاريمالدي. كردستان مثالية للسياحة، وإن كانت لا بحر لها، على نحو احتضان الريفييرا الفرنسية - الإيطالية لإمارة موناكو.
في استطاعة كردستان أن تكون قبلة المستثمرين العرب والأجانب، كما في استطاعتها أن تكون ساحة التعبير - إنما بضوابط - للأطياف المعارضة في الدول الثلاث المحيطة بها: العراق (بافتراض التعامل معها على نحو تعامُل فرنسا مع موناكو، أي حرية في السياسة الخارجية ومسؤولية في الأمور الدفاعية)، وتركيا (بافتراض اعتبارها كياناً محايداً، ولا يجوز الخلط بينه وبين مشكلة تركيا مع أكرادها)، وإيران (بافتراض عدم زج الجار الكردي في الهيمنة السائدة على العراق، وبعض لبنان، وجزء من اليمن).
يصعب على المرء التكهن بالموانع التي حملت مسعود بارزاني على عدم الأخذ بصيغة «موناكو كردية»، تحقق للشعب الكردي استقراراً ورفاهية وطمأنينة، وسيادة غير سياسية، وحياداً يقي الكيان الكردي شرور الصراعات على أنواعها، فضلاً عن أن هذا الكيان ربما يرتئي المجتمع الدولي اختيار عاصمته أربيل مقراً لمنظمة دولية اختصاصها معالجة الأزمات في المنطقة. كما أن هذا الكيان بحياده المصون دولياً سيصون العراق العربي من مغامرات الهيمنة الإيرانية، وتوأمها الهيمنة التركية، وذلك لأنه من خلال عدة نقاط حدودية هو بوابة العبور للدولتيْن المسكونتيْن بالأحلام الإمبراطورية التوسعية: إمبراطورية الطاووس الفارسي، وإمبراطورية السلطان التركي.
ونحن عندما نفترض ذلك، فلأن الوضع الراهن للكيان الكردي مفتوح على ارتضاء كل أنواع التدخلات الإيرانية والتركية، وذلك لأنه كيان متنازَع عليه وغير مستقر، وتعصف الحيرة بقيادته التي افترض رجلها القوي مسعود بارزاني أنه بتحويل الحُكْم الذاتي إلى كيان مستقل، سيصبح من أقوياء الشأن. ونفترض هنا أن خيار جنوبيي السودان مثَّل نقطة مهمة في تفكيره، وأمضى قبل أن يطرح فكرة الاستفتاء فترة اختلط فيها الممكن بالمستحيل، فقرر أن يمضي، مستحضراً المشهد الذي يلخصه قول الشاعر العربي:
وما نيْل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
«موناكو كردية» حُلم وحل في الوقت نفسه. لِمَ لا؟ ولِمَ لا يحظى لبنان بهذه الفرصة، صيغة الحل لتحقيق استقراره؟
التعليقات