علي سعد الموسى

في مقاله الأسبوعي بالزميلة «الشرق الأوسط»، يورد الزميل المفكر الكويتي، محمد الرميحي، أبرز سببين تاريخيين أسهما في نصف القرن الأخير على ظهور موجات عنف الإسلام السياسي، ومن ثم ولادة الجماعات الدينية المتطرفة. الاحتلال السوفييتي لأفغانستان الذي ألهم حماس الآلاف، ومن رحمه ولدت القاعدة وعودة الخميني إلى طهران، ومن ثم تم توظيف إمكانات دولة كاملة لتصدير المد العقائدي الطائفي إلى كل الجيوب والبؤر الورمية في الخريطة الإسلامية. وبالطبع، قد أتفق معه على جوهرية هذين الحدثين إذا ما أخذنا بنظرية «السببية» الحدثية الوقتية في مجرى التاريخ، ولكن الوقائع المادية الملموسة مثل الاحتلال والثورة دائما ما تخفي الأسباب الأخرى، ومن ثم أيضا تسهم في ضبابية وتضليل التحليل. هنا سؤال: لو لم يكن هذان الحدثان، الاحتلال والثورة، هل سنصل مع العنف والإرهاب إلى ما نـحن فيه؟ والجواب لديّ هو نعم وحتما، وإن كان بشكل وقالب وسيناريوهات مختلفة.


الجواب النهائي أن العولمة وثورة السايبر قد قسمتا هذا العالم برمته إلى فسطاطين، ولكنهما ليسا ذلك الذي ورد في «سفسطة» القاعدة وبن لادن. هما فسطاط علمي تقني صناعي وغني في رفاه الفرد وحقوقه الإنسانية، وفسطاط غارق في الجهل والفقر والكبت السياسي والسطوة المجتمعية القامعة لحريات الفرد في الاختلاف والابتكار. ناتج ألمانيا المحلي وحده يفوق ناتج كل خريطتنا، وشركة واحدة مثل «وول مارت» تدفع لموظفيها في العام الواحد من الرواتب ضعفي ما تدفعه إيران ومصر ونيجيريا وإندونيسيا لكل موظفيها الحكوميين. عالمان متباينان يعيشان على كوكب واحد. وفي مثل هذه المناخات المخيفة تولد العصابات وتتكاثر جماعات التطرف. ظاهرة الإسلام السياسي جاءت إلينا بسبب انعدام بناء الثقة في داخل الفرد والمجتمع. الإرهاب يتغذى على العقول الأقل ثقة والأكثر فشلا على مجاراة تسارع العولمة. حقيقة مؤلمة تحتاج معجزات خارقة وعقودا طويلة لتغيير هذا الواقع، وفي مثل هذا التباين الشاسع ما بين «فسطاطين» سيلجأ الأضعف إلى سلّ ما يظن أنه أقوى أسلحته التي يستطيع عبرها السطو والسيطرة على عقول جماهيره. هو هنا السلاح العقائدي كي يسحب المنتصر من ميدان التنمية إلى حروب الدين. ذلك بالضبط ما فعله أتباع الكنيسة في الوسط الأوروبي وهم يشاهدون كتائب التنوير والتحديث تسحب أتباعهم من بين أيديهم، مع بشائر ما سمي آنذاك بعصر النهضة.
وفي الخلاصة: كان من الخطأ التاريخي مجاراة ثورة الخميني بمشروع عقائدي مضاد في كل الخارطة الإسلامية. كان بالإمكان تعرية ثورته الطائفية بمشروع مدني تنموي يترك إيران السياسية عارية أمام شعبها المرتهن بخزعبلات تصدير الثورة. كان لنا أن نترك الشعب الإيراني يشاهد فسطاطين: واحد له وآخر من حوله، لكن هذا لم يحدث.