عادل درويش
مناقشات وسائل التواصل الاجتماعي باللغة العربية تعزو غياب حرية التعبير من الصحافة التي تدنى مستواها، إلى أنظمة قمعية، أو تبعية الصحافة للدولة، أو لرجال أعمال ومؤسسات فاسدة.
لكن الصحافة في الديمقراطيات الغربية ليست آمنة على مستقبلها أيضاً. الصحافة البريطانية تتعرض لتهديدات لا تقل خطورة عما تتعرض له الصحف العربية.
«فليت ستريت» الاسم المجازي للصحافة القومية في بريطانيا، (ليست الصحافة المحلية في الأقاليم والمقاطعات) تناقصت اليوم إلى 13 يومية، و11 ليوم الأحد، وقرابة عشرين مجلة أسبوعية. سأترك المواقع الإلكترونية جانباً، رغم تأثيرها السياسي. مع ارتفاع عدد أجهزة القراءة الإلكترونية.
الصحافة المطبوعة ستظل مصدر الخبر الذي يهز الدولة ويغير الحكومات لحين إشعار آخر.
السلطة الرابعة، كما سماها السياسي البريطاني الآيرلندي المولد إدموند بيرك (1730 - 1797) في كلمته في مجلس العموم عام 1787، مشيراً إلى «الكتبة والطباعين» (الاسم الذي أطلقته سلطات برلمان وستمنستر على الصحافيين غير المرحب بوجودهم في البرلمان؛ لأنهم ينشرون في مطبوعاتهم «معلومات تثير العامة وتستفز المشاعر وتسبب المتاعب»، أي ممنوعين من النشر أصلاً). وكان بيرك يقصد استقلال هؤلاء الصحافيين الذين يفسرون للشعب العادي (الجاهل في نظر علية القوم من الطبقة الحاكمة) اللغة السياسية وألفاظها والأساليب القانونية المعقدة بأسلوب قد يفهمه البسطاء. لم يكن نواب مجلس العموم وقتها يتلقون أجراً، وبالتالي لم يكن معظم الناس قد وصلوا لوعي أن النائب هو موظف عند الناخب الذي يدفع له الأجر من ضرائبه.
هذه الاستقلالية كان فيها نغمة التمرد، أو بمعنى آخر عدم خضوع القلم الذي يترجم لغة الحوار البرلماني وألغاز الساسة إلى جمل يفهمها البسطاء، مع إضافة شرح تفصيلي لما وراء عبارات الساسة المنمقة، أي شرح الصحافي، مستعيناً بمعلومات أخرى حصل عليها بطريقته الخاصة، للنوايا الحقيقية من سعي البعض لإصدار قوانين جديدة أو تعديل قوانين قائمة تؤثر في حياة رجل الشارع. وظلت سلطات وستمنستر في لعبة القط والفار مع الصحافيين والطباعين حتى جاءت حادثة مايو (أيار) 1803، وازدحام منصات المتفرجين في مجلس العموم بالعامة لمتابعة مناقشات الحروب النابوليونية ضد فرنسا، فلم يجد الصحافيون مكاناً للجلوس في القاعة. واشتكى وفد منهم لرئيس البرلمان تشارلز آبوت (1757 - 1829)، الذي أصدر قراراً برلمانياً لا يزال ساري المفعول بإنشاء مكاتب دائمة للصحافيين. وهنا، أصبحت السلطة الرابعة موجودة رسمياً داخل قصر وستمنستر، ورغم أنها في قلب مؤسسة الدولة البريطانية، فإنها مستقلة.
هذا الاستقلال لا يزال يثير حفيظة الساسة؛ لأننا نراقب كل ما يفعلون داخل قاعة البرلمان وخارجها.
وفي سنوات اهتزاز الحكومة لافتقارها للأغلبية وتخبطها، يكون من الطبيعي أن تقوم المعارضة بدور توازن القوى ومراجعة الحكومة، لكن عندما تكون المعارضة البرلمانية بدورها في انقسام وضعف وتخبط، يتعاظم دور السلطة الرابعة، ولا تلعب فقط دور المعارضة، بل تصبح الممثل الحقيقي للمواطن الناخب دافع الضرائب أي صاحب العمل الذي وظف الساسة، سواء في مقاعد الحكومة أو المعارضة، ليكونوا في خدمته.
وهنا تأتي استقلالية السلطة الرابعة. وفي مفارقة استغلال البعض لحرية الحركة في المجتمع الديمقراطي تصبح الاستقلالية خطراً يهدد مستقبل هذه الصحافة. فالصحافة المطبوعة المبيعة (يتراوح الثمن ما بين خمسين بنساً لصحف شعبية كـ«الديلي ستار»، إلى ثلاثة جنيهات كـ«الفاينانشيال تايمز»، ومتوسط ثمن الصحيفة الشعبية وشبه الشعبية نحو 80 بنساً، و«البرودشيت» أو صحافة المثقفين جنيهان) وليست التي توزع مجاناً؛ هي المقياس الحقيقي للرأي العام وأكثر صدقاً ودقة من أي استطلاع للرأي.
جو بريطانيا متقلب ممطر وبارد معظم السنة. القارئ يخرج عملياً من بيته لشراء الصحيفة، أو يدفع ثمناً إضافياً لتوصيلها إليه.
أي خيار بمجهود وثمن مدفوع لمنح صوته لصحيفة يلائم خطها التحريري، ومواقفها من التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، اتجاهات القارئ التي تعكس مصالحه ومتطلباته.
قسم الأخبار البرلمانية السياسية في هذه الصحف- غالباً- محايد؛ لأن الصحافي، سواء كان اتجاه الصحيفة يساراً أم يميناً يدرك أن هناك نحو مائة صحافي برلماني معظمهم حصل على المعلومات نفسها. فقط طريقة التفسير، وإضافة معلومات وأخبار من نواب وساسة ما يميزه عن الآخرين.
وهذا ينقلنا إلى مصدر الخطر، الذي يهدد الاستقلالية.
التوزيع الذي يجمع دخلاً مادياً يمول الصحيفة لتصبح مستقلة.
الخطر مصدره التيار الجديد من الشباب الذي يريد تغير الحياة السياسية في بريطانيا والمفردات اللغوية، وهو ما تناولته في مقالات سابقة عن طلاب جامعات يمنعون محاضرين ومفكرين من إلقاء محاضرات تخالف معتقدات الطلاب السياسية.
آخر التهديدات، الاحتجاج على شركات ومحال وسوبر ماركت تعقد- تقليداً- اتفاقيات تجارية مع شركات التوزيع ووكالات الإعلان بإعطاء نسخة مجانية من صحيفة معينة إذا اشتريت سلعة من المحل، أو العكس بالحصول على سلعة بثمن مخفض إذا قدمت كوبوناً من صفحة من صحيفة معينة.
المثال الأول مقاهي ستاربكس و«التايمز»، والثانية محال بيبرتشيس (تبيع أدوات الكتابة وكروت المعايدة) مع «الديلي ميل»؛ و«الصن» مع محال السوبر ماركت.
شباب اليسار في حركة مومنتم (الزخم) التي استولت على قواعد حزب العمال، استهدفت البيبرتشيس لاتفاقها مع «الديلي ميل» (توزع مليوناً والأكثر قراءة بين نساء بريطانيا)، مطالبة الناس بمقاطعة المحال. إدارة المحال قدمت اعتذاراً على «تويتر». الحملة نفسها استهدفت محال أخرى لها اتفاقيات مع «الديلي إكسبريس»، و«الصن».
الحملة تحاول مقاطعة هذه الصحف، وتبدأ بشيطنتها في أذهان الناس، بتهم «ملفقة» كالعنصرية، أو الاستخفاف بالنساء وتقدمهن في صورة عرائس مانيكان، أو أنها تخاطب الغرائز الدنيا والتيارات الشعبوية.
هذه الصحف الشعبية (و«الصن» توزع خمسة أضعاف «التايمز» رغم امتلاكهما من الشركة نفسها) هي الأكثر اقتراباً من هموم الناس؛ لأنها تتناول مشكلاتهم المحلية من مرور وصحة وخدمات مدارس، وليس مشكلة الرئيس ترمب مع إيران (التي تهم شريحة لا تزيد على مائة ألف من ستين مليون بريطاني). إلى جانب أنها تستخدم لغة مبسطة مفهومة للشعب بدلاً من تعقيدات الحنجوريين، وهذا أصلاً سبب وجود الصحافة في داخل البرلمان كسلطة رابعة منذ القرن الثامن عشر.
هجمة تيار الشباب الجديد اليساري على هذه الصحف تهديد يستهدف الإجهاز عليها؛ لأنهم يريدون كل الصحف مثل «برافدا» في العهد الستاليني السوفياتي، وغياب هذه الصحف سيقوض أسس السلطة الرابعة ويغيّبها عن محاسبة الساسة، في عودة إلى منتصف القرن الثامن عشر يوم اعتبر الساسة النبلاء أن نشر الصحافيين أخبار أدائهم في البرلمان مصدر إثارة للشغب ويسبب المتاعب للدولة.
التعليقات