هادي عمرو
عدد المستوطنين بمستوطنات الضفة الغربية البالغ عددها 130 مستوطنة ارتفع من 270 ألف مستوطن حين التوقيع على اتفاق السلام لعام 1993 إلى 400 ألف اليوم ويصل عددهم إلى 600 ألف إذا أضفنا مستوطني القدس الشرقية.
قبل قرار ترامب، كانت عملية السلام على شفا الهاوية. فقد تزايد يأس الفلسطينيين لأن الوقائع على الأرض تشير إلى أنه لم يعد من الممكن إقامة دولتهم في الضفة الغربية وغزة.
تظاهر واشنطن بالحياد في المفاوضات رغم دعمها الراسخ لإسرائيل، يعد عاملاً حيوياً لدفع الفلسطينيين إلى التفاوض برعاية أميركا كوسيط في المفاوضات ودون هذا التظاهر بالحياد لن تستطيع واشنطن التوسط.
التخلي عن التوافق الدولي في الآراء مرة أخرى في مسألة القدس، كما فعلت إدارة ترامب في انسحابها من اتفاق باريس للمناخ، جعل الولايات المتحدة تفقد مكانتها القيادية في عيون العالم.
ينبغي السماح بإعادة مؤسسات فلسطينية كثيرة إلى القدس الشرقية كانت قد أغلقت عام 2001 وإعلان أنه إذا عقدت انتخابات تشريعية فلسطينية في 2018 سيُسمح لفلسطينيي القدس الشرقية بالتصويت
انتاب شعور بالإهانة منظمة التحرير الفلسطينية التي دخلت عملية السلام قبل عقود بناء على تأكيدات أميركية بأن جميع القضايا قابلة للتفاوض، وجماعة «حماس» المسلحة تشعر بالغضب.
هادي عمرو*
العالم في ورطة أو هي على الأقل ورطة للأشخاص الذين يرفعون الصلوات إلى الله من أجل السلام في القدس والأراضي المقدسة. ويعود بعضنا بالصراع الحالي إلى 100 عام، أي إلى الإعلان البريطاني (وعد بلفور) في نوفمبر عام 1917 وهو ما يلعنه البعض ويحتفي به آخرون. والبعض الآخر يعود بالمشكلة إلى قرار تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية في نوفمبر عام 1947. لكن في المستقبل قد نعود إلى قرار الرئيس دونالد ترامب في الأيام القليلة الماضية بشأن القدس لننظر إليه باعتباره نقطة تحول مهمة.
وقبل أن نناقش تداعيات قرار ترامب، من المهم أن نفهم الفصل الحالي من العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية من الأمل والكراهية الذي بدأ قبل 30 عاماً بالضبط تقريباً. ففي التاسع من ديسمبر عام 1987 دهمت سيارة تابعة للجيش الإسرائيلي سيارة فلسطينية في مخيم جباليا للاجئين في قطاع غزة، ما أدى إلى مقتل أربعة أشخاص. ثم انتفض الجمهور الفلسطيني، امتداداً من الشباب الغاضبين إلى أصحاب المتاجر المحافظين، ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي سيطر على حياتهم، في مقاومة مدنية تضمنت الاعتصامات والإضرابات والرجم بالحجارة، وظهر استخدام قنابل المولوتوف. ورغم أن هذه الانتفاضة لم تكن مثالية، لكن المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة احتضنها بما حملته من ألم وأمل. ودفعت هذه الانتفاضة إلى وقوع سلسلة من الأحداث قادتنا إلى ما نحن فيه الآن.
انتفاضة 1987
لقد كانت انتفاضة عام 1987 هي ما دفع «جبهة التحرير الفلسطينية» على أن تقبل بشجاعة تنازلاً تمثل في «إعلان الاستقلال» في 15 نوفمبر 1988 وتتراجع عن هدفها الذي وضعته في عام 1964 المتمثل في «تحرير فلسطين» والوصول إلى «استعادة كاملة لوطنهم». وقبلت الجبهة بهذا التنازل بأقل حتى مما منحه قرار التقسيم لعام 1947 - دولة لا تضم إلا الضفة الغربية وغزة- فيما لا يزيد على خمس الأراضي المقدسة. وحولت انتفاضة عام 1987 الموقف السياسي الفلسطيني من اللاواقعية إلى البراجماتية. وانتبه العالم لهذا، واستمد مواطنو العالم العربي العاديون إلهامهم من آفاق قوة الشعب. ففي لحظة حدث فيها ما لم يكن متخيلاً مثل سقوط جدار برلين والإفراج عن نيلسون مانديلا، لماذا لا يجري حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الممتد عمراً، بشكل نهائي؟ ومن ثم، جمع الرئيس جورج بوش الأب، مدعوماً بنجاحه في تحرير الكويت، بين الزعماء الإسرائيليين والفلسطينيين وزعماء عرب آخرين في مؤتمر مدريد في خريف عام 1991 بناء على التسليم بأن الأطراف بوسعها التوصل إلى حل بالتفاوض.
فشل اتفاقات أوسلو
وانتفاضة 1987 هي التي دفعت، بعد ذلك ببضع سنين أي في عام 1993، العدوين اللدودين، وهما رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات إلى المصافحة في البيت الأبيض والتوقيع على اتفاق أوسلو برعاية الرئيس بيل كلينتون. كل هذا كان نتيجة رد جمعي للمجتمع المدني الفلسطيني في صورة انتفاضة ضد وضعهم غير المرضي بالمرة. ثم حدث الاحتلال العسكري الإسرائيلي. واليوم لدينا عملية سلام فاشلة. ومن المهم أن نتذكر هذه الانتفاضة لأن القوة يمكن أن تنتفض من جديد. لكن الآن، بعد مرور ثلاثة عقود ومقتل الآلاف من الإسرائيليين والفلسطينيين- وإنْ كانت الغالبية من الفلسطينيين- فإن السلام المأمول الذي يتمخض عن إقامة دولتين والذي قام أساس صرخة المجتمع المدني الفلسطيني المطالبة بالكرامة والاستقلال وبناء على طموحات الإسرائيليين بأن يحظوا أخيراً بالقبول في العالم العربي في دولة آمنة لهم، هذا السلام يتعرض لمشكلة عميقة. وفشلت مساع لا تحصى من أنابوليس إلى العقبة- بما في ذلك مسعى عملت فيه شخصياً تحت رعاية وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بل ومبادرة السلام العربية- فشلت هذه المساعي في تحقيق المزيد من التقدم في عملية السلام.
سراب «حل الدولتين»
وحتى قبل قرار الرئيس ترامب، كانت عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية على شفا الهاوية. فقد تزايد يأس الفلسطينيين من أن الوقائع على الأرض تشير إلى أنه لم يعد من الممكن إقامة دولة لهم في الضفة الغربية وغزة. وكان الإسرائيليون أنفسهم قد تخلوا فيما يبدو عن حل إقامة دولتين. فقبل أسابيع فحسب، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحزم أن «غور الأردن سيظل دوماً جزءاً من إسرائيل وسنواصل استيطانه». والواقع أن عدد المستوطنين الإسرائيليين في مستوطنات الضفة الغربية البالغ عددها 130 مستوطنة ارتفع من 270 ألف مستوطن حين التوقيع على اتفاق السلام لعام 1993 إلى 400 ألف اليوم ويصل عددهم إلى 600 ألف إذا أضفنا مستوطني القدس الشرقية. لكن المشكلة ليست في العدد الإجمالي للمستوطنين، بل في المكان الذي يقيمون فيه. فهناك نحو 90 ألف مستوطن يعيشون في عمق الضفة الغربية في الجانب الفلسطيني من الحاجز الأمني، وهو عدد ارتفع 20 ألفاً أثناء إدارة أوباما. ومع مرور الوقت يصبح الوضع أكثر تعقيداً. وقريباً، سنصل إلى الذروة حين لا يؤمن لا الفلسطينيون ولا الإسرائيليون بإمكانية الفصل.
محورية القدس
وبالعودة إلى الوقت الحالي، دعنا نسأل: ما الذي يجعل وضع القدس قضية كبيرة إلى هذا الحد؟ والإجابة هي: المشاعر الدينية العميقة هي التي تجعل القدس حيوية للغاية للمسيحيين واليهود والمسلمين حول العالم وأيضاً للإسرائيليين والفلسطينيين في الأراضي المقدسة. وقبل عقود، كان المجتمع الدولي حكيماً حين قرر أنه لا يمكن أن تعيش أي من هذه الجماعات من دون القدس، لذا يتعين أن يكون للجميع نصيب فيها- بتقاسمها بمعنى ما- حتى يتسنى للسلام أن يسود. وما سبب الأهمية الكبيرة لوجهات النظر الأميركية؟ والإجابة هي أن تظاهر واشنطن على الأقل بأنها محايدة في المفاوضات، رغم دعمها الراسخ لإسرائيل، يعد عاملاً حيوياً لدفع الفلسطينيين إلى التفاوض برعاية أميركا كوسيط في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. ودون هذا التظاهر بالحياد لن تستطيع واشنطن التوسط.
نتائج خطيرة
والآن، بعد قرار ترامب بشأن القدس، نجد أن النتائج كانت متوقعة. فقد انتاب شعور بالإهانة منظمة التحرير الفلسطينية التي دخلت عملية السلام قبل عقود بناء على تأكيدات أميركية بأن جميع القضايا قابلة للتفاوض. وجماعة «حماس» المسلحة تشعر بالغضب. والزعماء العرب الذين ربما أرادوا تأييد التوصل إلى حل وسط قد يجدون هذا صعباً عليهم الآن. والأميركيون في الخارج ومن بينهم الدبلوماسيون أقل أمناً، كما تجلى هذا في كثير من التحذيرات الأمنية التي أصدرتها سفارات أميركية. وإسرائيل التي أثارت غضب العرب عبر المنطقة أصبحت أقل أمناً وأصبح احتمال حصولها على القبول أقل ترجيحاً. والتخلي عن التوافق الدولي في الآراء مرة أخرى، كما فعلنا في انسحابنا من اتفاق باريس للمناخ، جعلنا نفقد مكانة القيادة في عيون العالم.
تساؤلات ما بعد الإعلان
لكن أكثر النتائج درامية هي أن إعلان دونالد ترامب بشأن القدس نزع عن الولايات المتحدة تماماً أهليتها للقيام بدور الوسيط في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من قلوب الشعب الفلسطيني نفسه. والتراجع الكبير في النفوذ الأميركي في عملية السلام يجعل إسرائيل نفسها أقل أمناً. إذن، إلى أين نتجه من هنا؟ يستطيع أي شخص أن يخمن. فقد أحدث إعلان ترامب بشأن القدس زلزالاً في المجتمع الفلسطيني. والقيادة الفلسطينية تجتمع حالياً لتقرر استجاباتها. فهل تتشبث هذه القيادة ببصيص الأمل المتعلق بتصريح البيت الأبيض بأنه «يعترف بأن الحدود الدقيقة للسيادة الإسرائيلية في القدس، خاضعة لمفاوضات الوضع النهائي بين الأطراف»، وبالتالي تتمسك هذه القيادة بالولايات المتحدة؟ هل ستواصل الكفاح نحو تحقيق حل إقامة الدولتين، لكن مع التخلي عن واشنطن كوسيط في السلام؟ وإذا حدث هذا، هل لن يكون هناك وسيط؟ أم أن قوة دولية أخرى مثل أوروبا أو روسيا أو الصين أو مجموعة منهم ستتقدم إلى هذه المهمة؟ هل ستقود الشارع الفلسطيني إلى انتفاضة أخرى؟ وإذا فعلت هذا، هل ستكون الانتفاضة مقاومة سلمية غاندية أم مقاومة عسكرية ديجولية؟ هل ستضطلع هذه القيادة بانتفاضة دبلوماسية دولية تلتحق من خلالها بكل منظمة دولية وتقيم قضية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية؟ هل ستتخلى عن نموذج إقامة دولتين وتطالب بإقامة دولة ديمقراطية واحدة يعيش بها العرب واليهود معاً ليكون لكل شخص فيها صوت انتخابي؟
الجيد في الأمر، أن المجتمع الفلسطيني هو الذي قد يحدد المستقبل إذا تحدث بصوت جمعي مرة أخرى. هل هناك أي شيء تستطيع إدارة ترامب فعله لإنقاذ الموقف في تصور الفلسطينيين عن أميركا؟ فمن الجدير بالذكر، أن الشارع الفلسطيني تلقى بآذان صماء التوضيحات التي جاءت في إفادة وزارة الخارجية الأميركية في السابع من ديسمبر الجاري والتي ذكرت أن الولايات المتحدة «لا تتخذ موقفاً أو تغير موقفها بشأن السيادة في القدس». ورغم أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد تستوعب هذه الفروق الضئيلة، لكن ليس من الواضح إذا ما كان هذا سيؤثر على قدرتها على إقناع الرأي العام.
وسائل تصحيح الخطأ
وما تستطيع الولايات المتحدة فعله - وتحديداً في مسألة القدس- هو حث الحكومة الإسرائيلية على تغيير سياستها هناك بطريقة تجعل الفلسطينيين يشعرون أن لهم نصيباً حقيقياً في مستقبل المدينة المقدسة. وهذا يتضمن السماح بإعادة مؤسسات فلسطينية كثيرة إلى القدس الشرقية كانت قد أغلقت عام 2001 مثل غرفة التجارة العربية. وإعلان أنه إذا عقد انتخابات تشريعية فلسطينية في عام 2018 سيُسمح للفلسطينيين من سكان القدس الشرقية بالتصويت في هذه الانتخابات كما كان معمولاً به في الماضي. وأن تتوقف إسرائيل عن المنع المتواتر لإصدار تصاريح الإقامة لأشخاص من الضفة الغربية لهم أزواج في القدس الشرقية. وأن تخفف القيود بشكل كبير ليتمكن الفلسطينيون من بناء مساكن لهم أو حتى تجديدها في القدس الشرقية.
وفي هذه المرحلة، تستطيع الولايات المتحدة التصريح بعدد قليل من الكلمات بوسعها أن تحدث فارقاً. وسيجري الحكم علينا بأفعالنا وأفعال حليفتنا إسرائيل. وكما تعلمنا من الانتفاضة التي بدأت عام 1987، فإن آمال وأحلام وأفعال الشعب الفلسطيني هي التي تشكل المستقبل. وهي التي ترشد أعمال زعمائهم، وتشكل وجهات نظر العالم. وتدفع إسرائيل إلى الاستجابة. ومهما يكن من أمر، ربما بلغنا نهاية الفصل الذي امتد عقوداً من القيادة الأميركية في المعترك الإسرائيلي الفلسطيني، ما لم يتحل هذا الرئيس أو ربما الرئيس الذي يليه بالشجاعة ليتخذ خطوات جديدة وكبيرة في هذا المعترك. ولا أحد يعلم شيئاً على وجه اليقين، فقد لا يكون فشلنا-الذي أقر بأنني مساهم فيه- بهذا السوء.
عن دورية «فورين بوليسي»
* نائب مساعد مدير شؤون الشرق الأوسط السابق والمبعوث الخاص السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في إدارة أوباما.
«واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
التعليقات