مصطفى السعيد

كان يمكن أن تمر زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان بدون اهتمام، لولا ما تخللها من إشارات مقلقة، وتزامنها مع الحملة الأمريكية ضد مصر، والتي استغلت الورقة الطائفية الخطيرة بمناقشة الكونجرس الأمريكي لما يسمى «مشروع قانون دعم الأقباط» لأول مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين.

ليس منح السودان جزيرة سواكن على البحر الأحمر لتركيا هو المثير للقلق، رغم رمزيتها في إيقاظ الحلم العثماني المستغرق فيه أردوغان، بوصف سواكن الميناء الذي وطأته أقدام الغازي العثماني سليم الأول، واختاره ليكون مقرا سياسيا ومركزا لأسطوله، فالأخطر كان الاجتماع الثلاثي لرؤساء أركان جيوش تركيا وقطر والسودان، فالحضور القطري لم يكن له ما يبرره، إلا إذا كانت هناك مخططات مشتركة بين الأطراف الثلاثة في هذه البقعة الحساسة لمصر والمنطقة، أما الأكثر إثارة للتساؤل فهو اختيار أردوغان لتشاد لتكون محطته الثانية بعد السودان، رغم ضعف العلاقات إلى درجة العدم بين البلدين، فليس لتشاد أية قيمة اقتصادية أو سياسية مع تركيا، ولا هي بالدولة الكبيرة المؤثرة، ولا يميزها بالنسبة لتركيا إلا امتلاكها حدودا مشتركة وواسعة مع ليبيا، تجعلها المدخل الجنوبي الصحراوي الرئيسي إلى ليبيا بعيدا عن أعين السفن والطائرات التي تراقب الشواطئ الليبية وتمنع وصول الأسلحة أو تسلل الإرهابيين القادمين من سوريا والعراق، كما كان من المنطقي أن يزور أردوغان تونس، وأن يلتقي مع راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإخواني في تونس، والذي كان له دور مؤثر على الأحداث في ليبيا. هكذا تتضح معالم الطوق الذي يحاول أردوغان أن يرسمه حول مصر، من البحر الأحمر والسودان وتشاد إلى ليبيا، ليعطي قبلة الحياة إلى جماعة الإخوان المفككة والمنهكة والمهزومة.

كان أردوغان قد تلقى صفعة جديدة في سوريا، عندما أعلنت روسيا تأييدها بدء مرحلة القضاء على تنظيم جماعة النصرة الإرهابي، وهو أهم حلفاء أردوغان، وكان يلقي عليه ما تبقى من الأمل في وضع يد تركيا على محافظة إدلب، وبسط نفوذه على مناطق تواجد أكراد سوريا في عفرين، وبالفعل حقق الجيش السوري تقدما سريعا، ليهدم ما تبقى من أحلام أردوغان في سوريا، لكن ما أحيا آمال أردوغان في إيجاد موضع قدم لأحلامه هو الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الرئيس الأمريكي ترامب بإعلان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وموجة الغضب التي ضربت المنطقة، والحرج البالغ الذي تسبب فيه ترامب لحلفائه في الخليج، ليمتطي أردوغان ثياب الفارس المدافع عن القدس فجأة، ويعتلي مسرح الأحداث مجددا، وسواء كان التحرك الأمريكي التركي المتزامن للضغط على مصر جاء مصادفة أو بالتنسيق فإنه لن يجني سوى المزيد من التأزم والفوضى، فالرئيس الأمريكي الذي فشل عسكريا في منع التواصل بين إيران والعراق وسوريا ولبنان، وعزز النفوذ الروسي في المنطقة بدل أن يضعفه يوجه ضربة جديدة لمشروع السلام بفتح معركة القدس، ليكون عاجزا عن الحرب وأكثر عجزا عن وضع لمبادرة سلام يمكن أن تحظى بالقبول الواسع، لكن نظرته الضيقة إلى المنطقة بعيون رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتانياهو وصهره الشاب جاريد كوشنر مدير مؤسسة تمويل المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية تزيد من تخبط ترامب، الذي يسدد إلى العين المصابة ليعميها بدلا من أن يداويها، ويهرب إلى الأمام متجاوزا حدود المنطق والمعقول، فيشجع إسرائيل على إعلان ضم الضفة الغربية، وبناء المزيد من المستوطنات حول القدس، ويركل بكل حلفائه في المنطقة، معتقدا أن بإمكانه فرض أمر واقع ليس بالإمكان تحقيقه.

يثير البهلوان أردوغان إعجاب بعض من يلتقوه، فهو متحدث بكل اللهجات، ومعبرا عن أحلام كل الأطراف المتعارضة، فما يقوله في موسكو يقول عكسه في واشنطن، ووعوده لطهران عكس تعهداته للرياض، لكنه اعتاد وبرع في تلك اللعبة الخطرة، طالما أنها مازالت تثير إعجاب بعض الطامعين والحالمين، ورغم انكشاف خدع أردوغان أكثر من مرة، إلا أنه لايزال يقدم نفس الألاعيب على مسرح الأحداث، ومازال هناك من يصدقوة. سيجد الرئيس السوداني أنه خسر علاقاته مع كل من السعودية والإمارات، ربما على أمل أن تعوضه قطر، وأن يرى المشروعات التي وعده بها أردوغان، وهو ما سيربك الحرب اليمنية التي تشارك فيها القوات السودانية، لكن قطر منتشية من كل ما يحدث، فالدخان بتصاعد من كل مكان.

رغم كل ما يخطط له أردوغان ويساعده فيه ترامب سواء بأخطائه أم بتقلباته فإنهما أثبتا قدرتهما على إثارة الكثير من الضجيج دون إنتاج طحين، وإثارة الكثير من الغبار دون معارك حقيقية أو تحقيق انتصارات، لكن ما يثيرانه من ضجيج وأدخنة يعمي العيون ويؤذي شعوب المنطقة، ويمنح للإرهاب فرصا جديدة لارتكاب المزيد من الجرائم.