توفيق السيف 

 معظم نقاشات إصلاح الخطاب الديني تنصرف إلى جانبين؛ تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. ثمة بعد مهمل لكني أراه أكثر أهمية وضرورة، يتمثل في الفرز بين ما هو موضوع ديني وما يمكن أن نسميه خارج الدين، أي القضايا التي تركها الشارع للعرف وعقول الناس.


جادلت في مقال الأسبوع الماضي بأن التشدد في الأحكام قد يكون عرضاً لعلة أخرى، هي الجمود الآيديولوجي. وأظن أن هذا بدوره ناتج عن تحول الخطاب الديني من وعاء للفكرة الدينية إلى هدف بحد ذاته. ونقصد بالخطاب مجموع أدوات العلاقة بين الدعاة إلى الدين والجمهور، سواء كانت معارف مكتوبة أو مؤسسات أو أنماط علاقة أو نظم عمل أو تقاليد أو فولكلور.
أقول إن البعد الثالث مقدم على تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. لأن وظيفة هذين الجانبين هي خدمة الغرض النهائي للخطاب، أي المحافظة على مكانة الدين في الحياة الفردية والعامة. فالواضح اليوم أن شريحة معتبرة من العاملين في المجال الديني، تركز على تأكيد مكانة الخطاب نفسه، أي تأكيد مكانة المعارف المرتبطة به والأشخاص الذين يمثلونه والمؤسسات التي قامت في إطاره وحتى الأعراف والتقاليد والعلاقات التي نشأت كناتج جانبي في ظله.
لتوضيح الفكرة سوف أقارنها بالفرق بين الأغراض والوسائل، مثل أن يهتم الناس بالمسجد أكثر من اهتمامهم بالصلاة. ومثل اهتمامهم بتلاوة القرآن وحفظه أكثر من معانيه وتعاليمه. ومنه أيضًا اهتمامهم بتفادي الأرباح الربوية في البنوك، دون اهتمام موازٍ بالغرض الذي حرم الربا من أجله.
حين أقرأ الآراء التي ينشرها بعض الدعاة المعاصرين، كتبرير لمواقفهم من قضايا سياسية أو جدالات اجتماعية، أرى فيها اهتماماً بمكانة «الجماعة» أو التيار، يفوق اهتمامهم بالأغراض الكبرى للدين وقيمه العليا.
ناقشت في وقت سابق صديقاً من الدعاة المعروفين حول ما يكتبه عن الصراع بين الإخوان المسلمين والحكومة المصرية، ولا سيما استهانته بوحدة المجتمع المصري والسلم الأهلي فيه، واعتباره كل مخالف للإخوان منافقاً أو مغفلاً ومطية للأجانب. فأجابني ببساطة أن «صراع الحق والباطل لا يحتمل المواقف الرمادية: إما أن تكون مع الحق أو مع الباطل، مع الإخوان أو الحكومة».
سواء كنا مع أحد الطرفين أو ضدهما، فإن اعتبار أحدهما معياراً للحق والباطل، يعني بالضبط نقل صراع سياسي من مستواه العرفي إلى مستوى المقدس الديني. تدار الصراعات السياسية بناء على تقديرات عقلية، تتغير تبعاً لمصالح أطراف الصراع. وقد يلتزم هؤلاء بالمعايير الأخلاقية أو يغفلونها. لكن اعتبارها موضوعاً دينياً، يترتب عليه عقاب وثواب أخروي، ينطوي على مخاطرة الابتداع في الدين. والابتداع كما نعلم هو أن تدخل في الدين ما ليس منه.
لا شك أن إقحام هذا النوع من صراعات المصالح في المجال الديني، ينطوي على تكلف كبير. سواء عبرنا عنه باعتدال أو بخشونة، وسواء اتبعنا في التوصل إليه منهج اجتهاد تقليدي أو حديث. جوهر المشكلة هو إلباس العرفي ثوب المقدس، وليس طريقة التعبير عنه.
أقوى المبررات التي تطرح في مقابل هذه الرؤية، هو قولهم إن الدين منهج يتسع لقضايا الحياة كلها من دون استثناء. وهو قول مرسل لا يستند إلى دليل ديني يتحمل ثقله. لكنه شائع جداً بين المسلمين إلى حد اعتباره من المسلمات.
ومن هنا فإن المهمة الأكثر إلحاحاً في مسار إصلاح الخطاب الديني، هي مراجعة العلاقة بين الدين وقضايا الحياة، لرسم الخط الفاصل بين موضوعات الدين، وما هو خارج الدين..