أمير طاهري
في وقت سابق من الشهر الحالي، نشرت صحيفة «كيهان» الإيرانية اليومية، المعروفة بنقل وجهات نظر آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، مقالاً حول استراتيجية الاحتواء التي اعتمدها الرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان في مواجهة الاتحاد السوفياتي، في أواخر عقد الأربعينات من القرن الماضي.
ولقد بررت الصحيفة الإيرانية إتاحة المجال لموضوع مستتر وقديم كهذا من واقع محاولة بعض المراكز البحثية الأميركية الدعوة إلى اعتماد سياسة مماثلة حيال الجمهورية الإسلامية في طهران، ومن بينها مؤسسة وودرو ويلسون ومؤسسة كارنيغي.
وتؤيد صحيفة «كيهان» الإيرانية موقفها بمقالات افتتاحية نشرت أخيراً بواسطة بعض من جماعات الضغط الإيرانية في الولايات المتحدة، ومن بينهم دبلوماسيون أميركيون، ووسطاء للأعمال التجارية، ونشطاء مناهضون للحروب.
وكانت سياسة الاحتواء التي اعتمدها الرئيس هاري ترومان من بنات أفكار جورج كينان في عام 1946، عندما كان يشغل منصب القائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في موسكو. ولقد أعرب عنها في تقرير يتألف من 8 آلاف كلمة، وهو الذي حمل لاحقاً عنوان «البرقية المطولة»، والذي كان موجهاً إلى وزارة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت.
وبعد عام من ذلك، وبعد عودته إلى واشنطن، أيد كينان موقفه الأول بمقال آخر يحمل التوقيع «إكس».
وبفضل الولع الأميركي بالمبالغة والإطناب، فلقد أكدت «البرقية المطولة»، ومقال «إكس»، سمعة كينان، كخبير استراتيجي من أصحاب البصائر النافذة، وصدقوا أو لا تصدقوا قيل إنه الرجل الذي حال دون اندلاع الحرب العالمية الثالثة!
ورغم ذلك، فإن القراءة الموجزة للحقائق قد تشير إلى صورة مغايرة تماماً.
بادئ ذي بدء، فإن مفهوم الاحتواء ذاته هو من المفاهيم غير الدقيقة، وغير المتقنة، لإرساء الأسس لاستراتيجية راسخة. فإن الجانب الذي يسعى لاحتواء أحد الخصوم ليست لديه السيطرة على ما يمكن لخصمه أن يفعله.
والأمر الوحيد الذي يتيقن الجانب الساعي للاحتواء من فعله، هو احتواء الذات. ثم، لا يعني ذلك إلا التخلي من جانب واحد عن كل الخيارات الأخرى التي تظل مفتوحة أمام الخصم.
وهذا بالضبط ما حدث في العلاقات الأميركية السوفياتية عبر العقود التالية.
وقبل أن يصبح مفهوم الاحتواء من المفاهيم المألوفة في واشنطن، مارس الاتحاد السوفياتي سياسة احتواء الذات كلما شعر بالتمادي في استفزاز الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، في عام 1946، أوضح الرئيس هاري ترومان للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين أنه لا يمكنه الاحتفاظ بالجيش الأحمر في محافظتين إيرانيتين محتلتين منذ عام 1941. وبعد محاولة موجزة للتملص والمراوغة، امتثل ستالين للإشارة الأميركية، وقام بسحب قواته من إيران، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة.
وهناك مثال آخر جاء في الفترة نفسها التي أوضحت فيها واشنطن لموسكو أن الولايات المتحدة لن تسمح للشيوعيين المسلحين المدعومين من الاتحاد السوفياتي ببسط سيطرتهم على اليونان. وإثر القلق من استفزاز الولايات المتحدة، التي كانت في ذلك الوقت تملك زمام السيطرة على الأسلحة النووية، وافق الزعيم ستالين مرة أخرى على رفع الدعم عن المتمردين الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية، التي كانت الولايات المتحدة فيها توفر الدعم للحركات القومية.
وفي أوروبا الشرقية والوسطى، لعب الاتحاد السوفياتي بورقة «الائتلاف» و«الجبهة الشعبية»، وسمح للأحزاب والشخصيات الموالية للغرب بالاحتفاظ بنصيب من السلطة.
وتقييد الولايات المتحدة بحبل الاحتواء أدى إلى تحرير الاتحاد السوفياتي من أية قيود كان قد فرضها على نفسه.
ووفرت سياسة الاحتواء للاتحاد السوفياتي الحرية لمتابعة استراتيجية الهيمنة.
في أول الأمر، طرد الشركاء الليبراليين في أوروبا الشرقية والوسطى، من خلال إقامة نظم الحكم الشيوعية حتى النخاع، التي تديرها موسكو.
كما زاد ستالين من الدعم المقدم إلى الشيوعيين الصينيين، وفي الوقت نفسه عمل على تجنيد وتدريب وتسليح الفرقة الموالية لكيم إيل سونغ في شبه الجزيرة الكورية.
كما أنه أطلق «حركة السلام»، وهي واجهة للأحزاب الشيوعية التي تشرف عليها أجهزة الاستخبارات السوفياتية في أوروبا الغربية، وفي الشرق الأوسط، وفي أميركا اللاتينية كذلك.
وخلال عامين من نشر المقال «إكس»، تمكنت موسكو من إنشاء 18 حزباً شيوعياً على مستوى العالم. وفي الوقت نفسه، أشرفت موسكو على سلسلة من الجماعات المناهضة للاستعمار في آسيا وأفريقيا، مع التأكد من توريط الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة، مثل بريطانيا وفرنسا، في صراعات استعمارية تستنزف قواهما العسكرية لأعوام مقبلة.
وبعد مرور ست سنوات على مقال «إكس»، تم تشكيل «حلف وارسو» واستخدامه كغطاء لآلة الحرب السوفياتية.
وإيماناً من ستالين بأن سياسة الاحتواء لن تدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ أي رد للفعل، تمكن من الضم الرسمي لجمهوريات البلطيق، وسمح لفنلندا بالبقاء دولة ذات سيادة شبه كاملة، بفضل تطبيق سياسة «الفنلدة» التي تقضي بعدم تحدي جارٍ أقوى في شؤون السياسة الخارجية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية.
كما شجعت سياسة الاحتواء ستالين أيضاً على تسريع وتيرة البرنامج النووي الذي، خلال عامين فقط من نشر مقال «إكس»، مكنه من الحصول على القنبلة النووية التي طال انتظارها.
وبعد رحيل ستالين، في مارس من عام 1953، منحت سياسة الاحتواء لموسكو الضمانات الكافية ضد الإجراءات العقابية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، وهي الضمانات التي استخدمت أفضل استخدام عندما عمد الاتحاد السوفياتي إلى سحق الانتفاضات الشعبية في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، وخلق دولة موالية عملية في ألمانيا الشرقية. وفي كل هذه الأماكن، كانت الدبابات السوفياتية تجوب الشوارع والميادين، مع يقين تام بأن الولايات المتحدة قد نزعت سلاحها بنفسها، إثر اعتمادها لسياسة الاحتواء المعلنة!
وكان المسمى الحقيقي لمفهوم «الستار الحديدي» المجازي هو «سياسة الاحتواء».
لقد منحت «البرقية المطولة» ومقال «إكس» للاتحاد السوفياتي مطلق الحرية فيما كان يُعرف بالحرب الباردة، ولم يتغير شيء حتى جاء الرئيس رونالد ريغان، واستبدل بسياسة الاحتواء استراتيجية «الحد من الانتشار»، التي مثلت بدء العد التنازلي لتفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي، حتى السقوط الأخير في عام 1991.
وقع كينان في خطأ تضييق الخيارات في مواجهة الاتحاد السوفياتي إلى خيارين اثنين فحسب؛ إما الحرب الشاملة، وإما تحييد الولايات المتحدة التام عبر سياسة الاحتواء.
وسواء كانوا على علم أو عدم علم، فإن الذين روجوا لفكرة الاحتواء في حالة الجمهورية الإسلامية في إيران يقعون في الخطأ نفسه. فالأنظمة الانتهازية، مثل الاتحاد السوفياتي البائد، والنظام المختلط الذي تركه الخميني في طهران، لا يمكن احتواؤها بحال، خصوصاً إذا ما ادّعت الشرعية استناداً إلى الخطابات التبشيرية الزائفة.
كان الاتحاد السوفياتي لا يمثل إلا حالة شاذة في قلب أوروبا.
وما كان أمامه إلا أن يحول القارة بأسرها إلى النظام الشيوعي، أو يذوب تماماً في بوتقة القارة العتيقة.
ويقف نظام الخميني في الموقف نفسه تماماً: فإما أن يفرض نظامه على ربوع منطقة الشرق الأوسط بأسرها، أو يكون كمثل بقية دول المنطقة التي توجد فيها إيران.
ومن خلال التعامل مع الاتحاد السوفياتي بالأمس، ومع الجمهورية الإسلامية اليوم، فإن الخيارات المتاحة غير مقصورة على شن الحرب الشاملة، أو اعتماد سياسة الاحتواء الوهمية.
ففي كلا السياقين، لا تعني كلمة «الاحتواء» إلا الاستسلام المسبق.. . . . . . .
التعليقات